قبل يومين، انتهت في «معهد الوسط للتدريب» دورة فن كتابة المقال. كانت الأيام الأربعة للدورة، التي تشرفتُ بتقديمها لثلة نابهة ومُقدَّرة من الأخوة والأخوات، وبأعمار مختلفة، فرصة سانحة وثرية لاستكشاف آراء وأفكار ورغبات أجيال لا تظهر عادة في «الجَعجعَات».
فالنقاشات التي ولَّدتها ساعات التدريب، وكانت تعقب عادة التطبيقات على أشكال المقالات، مَنَحتني الإيمان أكثر من أيّ وقت مضى بأهمية مفهوم «النقاش» بين أجيال متباينة في العمر والثقافة، ظَهَرَ أنها قادرة على التفكير وفهم الأمور بشكل جيد.
كما أدركت أكثر، بأن التدافع الاجتماعي والحركة الفكرية والتربوية لا تنحصر فقط في قرطاس الكتب والصحف، ولا في النخب ولا في «الكانتونات الثقافية» المغلقة، بل إن هناك صفيحاً في قاع المجتمع، له رأي ووجهة نظر، لكن شاءت الأقدار أن لا يجد فرصة للتعبير عنها بصوت مُجلجِل، ما خلا مواقع التواصل الاجتماعي، أو أنه يدسها في مكنوناته.
فكلمة «مجتمع» هي عامة إلى الحد الذي يجعلها غير واضحة. لكن، يمكننا فهم تلك الكلمة من خلال الأفراد الذين يتكوَّن منهم المجتمع، والذي بدونهم يصبح لا وجود له. لذا، فإن الاستماع إلى الأفراد وجعلهم في نظام النقاش العام والمفتوح، هو الطريق الأسلم لفهم حقيقة الاتجاهات الاجتماعية، ووجهتها، وطريقة تشكلها.
خلال مناقشة لخاتمة أحد المقالات التحليلية التي أوصى فيها الكاتب بضرورة «التربية الذاتية لأفراد الشعوب للتخلص من جموع الهويات الفرعية، كمخرج وحيد أمام إيجاد استقرار سياسي وسلم أهلي»، استشكلت إحدى المتدربات حول ذلك المفهوم.
إشكالها ينحصر حول صعوبة تحقق «التربية الشاملة» للأجيال، حيث أنه أمرٌ مثالي لا يُمكن تطبيقه. والحقيقة أن ذلك الاعتراض وجيه، لكنه أيضاً محل نقاش. فـ «التربية السديمية» حتماً أمر غير وارد في مسألة تكوين الرأي الاجتماعي، لكنه سيتحقق «بالتربية الذاتية» القائمة على النقاشات الدائمة في المجتمع، وبالتالي تحقق الالتزام والمسئولية الأخلاقية، التي تبدأ مُفردة وتنتهي جامعة. وهي تجربة تكرّرت في العديد من الدول.
ففي أوروبا خلال فترات تكوُّن مجتمع ما بعد الثورتين الفرنسية والصناعية، دخل الأوروبيون في موجة نقاش عميقة، تناولت كافة القضايا الاجتماعية والسياسية، فتولدت حالة من القناعات الرجراجة والمتبدلة، كون الأفكار كانت تُمحَّص ولا تُقدَّس لينتهي بها الأمر إلى القضايا المشتركة.
بل حتى القطاعات المتطرفة، دخلت في ذات السلك، حين كان يتجمع الجيرونديون في أديرة اليعاقبة الدومينيكانى في باريس. وقد أنتج ذلك فضاءً واسعاً من القبول المتبادل، فسَّرته ظروف ما بعد حقبة الإرهاب. هذا الأمر حصل أيضاً في الدول المنقسمة عرقياً وطائفياً.
قبل عدة سنوات، ذكرت هنا تساؤلاً كان جون رولز قد طرحه وهو لماذا لا تدخل الدول الأوروبية في حروب مع بعضها البعض في هذا الأوان؟ وقد أجبت حينها بقراءة كتاب رولز المسمّى «قانون الشعوب وعَودٌ إلى فكرة العقل العام»، بأن «دوافع الحرب التي كانت موجودة في السابق، والتي دفعت بالأوروبيين لأن يتقاتلوا لم تعُد قائمة. ففي السابق كان الطموح لا يتعدّى الاستيلاء على الأرض وتوسيع مجال السلطة أو من أجل العقيدة الدينية».
لقد حصل هناك تبدل في «بُنيَة المجتمعات الأوروبية الداخليّة». في السابق «كان الناس أزيد عدوانية وشرّاً، وميَّالين أكثر إلى الانتقام بسبب الهمّ الاجتماعي القائم على مُغالبة التقسيم الطبقي ما بين سُخْرَة وأسياد وطبقة أرستقراطية، في حين أن استقرار الحالة الاجتماعية قد نقل المعركة من مادية إلى أخرى تتعلق بكيفية المحافظة على الحقوق المشتركة».
في سويسرا، التي تعتبر موازييكاً ما بين الألمان والفرنسيين والإيطاليين والرومانشيين، كانت ولازالت تعيش على الحوارات المعمَّقة في المجتمع. بل إن الاستفتاءات المعلقة، التي لم يُحسَم فيها الرأي، تخضع عادةً لنقاشات دائمة، بغية الوصول إلى نقاط مشتركة.
كذلك الحال، في دول بلقانية عانت حروباً طاحنة. في كوسوفو والبوسنة، حيث الصرب والكروات والمسلمين لم تهدأ النقاشات «على مستويات عدة في المجتمع منها الشعبية والوسطى والنخبوية في المواقف العاطفية والنفسية والفكرية للأفراد الذين عاشوا معاناة لا يمكن تصورها» كما كان يقول أنطونيا تشاير ومارثا ميناو مُحرِّرا كتاب «تخيل التعايش معاً». فالمشاعر المتوجِّسة عادةً ما تهدأ عندما تبدأ في الاقتراب من بعضها.
بالتأكيد، الموضوع لا يتعلق بالقضايا السياسية والثورية، ولا بالمجتمعات المقسومة، بل حتى بالمجتمعات التي تعتمل فيها أجيال مختلفة. فالتباينات العمرية والطبقية، عادةً ما تُولِّد تباعداً في الرؤية إلى الأشياء، الأمر الذي يؤدي إلى تشتت الرغبات والميول ودرجاتها.
النقاش عادةً ما يخلق «نسبية» في النتائج بعد أن كانت محمية بالهويات الفرعية في المجتمع، وبالتالي يدفع بالأفكار لأن تصبح قابلة «للجرح والتعديل»، وقابلة لأن تتهجَّن. إذ لا يمكن لأحد أن يمتلك حقيقة كاملة، وإلاَّ أصبح معصوماً وهو ما ينافي حقيقته.
اليوم، نحن أحوج ما نكون إلى النقاش، سواء في البيوت أو المدارس أو الجامعات أو النوادي أو الجمعيات والمؤسسات الاجتماعية والدينية، وبطريقة «غير أبوية»، ودون أن تكون فيها النخب متسلطةً على دفة النقاش، بغية إزالة الفروق بين الأجيال، وتقريب الأفهام، ونقطع الطريق على «مُخرِّبي» العقول والتعساء في مجتمعاتنا.
كان الفيلسوف الإنجليزي برتراند راسل يقول: «مشكلة العالم أن الأغبياء والمتشددين واثقون بأنفسهم أشد الثقة دائماً، أما الحكماء فتملأهم الشكوك». ومسئوليتنا في هذه اللحظة، أن نعكس هذه المعادلة كي يتقدّم الحكماء ويتأخر الأغبياء والمتشددون.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 4310 - الأربعاء 25 يونيو 2014م الموافق 27 شعبان 1435هـ
احسنت
مقال قمه في الروعه
مُخرِّبي العقول والتعساء في مجتمعاتنا
ما ينمي الثقة في الأغبياء والمتشددين هو الجبن و الشكوك الداتي المستمر للحكماء
الحوار في القرآن الكريم موجود رغم أن الله هو رب العرش
(((قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا))
((قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ))