مطلع الثمانينات من القرن الماضي، وتحديداً في مدينة العين، التي تبعد نحو 150 كيلومتراً عن عاصمة دولة الإمارات العربية المتحدة (أبوظبي)، ثمة دوّار يبدو من مركزه ألَّا علاقة له بهندسة الطرق والتخطيط المقرّر للشارع، تتوسّطه شجرة غاف، الاسم العلمي لها (Prosopis)، وهي شجرة تنبت في الصحراء العربية، ويوجد منها الكثير في دولة الإمارات العربية ولها أهمية خاصة من الناحية البيئية، بقيت ضمن قليل منها فترة تمدُّد المدينة لإنشاء المدن الإسكانية ومدّ الشوارع بين مناطقها.
ولأن هنالك تعليمات من رأس الدولة وقتها، المغفور له بإذن الله سمو الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، الذي اهتم بالبيئة والتشجير أيما اهتمام، بألّا يتم اقتلاع شجرة إلا في أضيق الحدود، وإذا تفتق ذهن المهندسين وأقسام التخطيط التابعة إلى بلدية العين وتخطيط المدن للحيلولة دون قطعها فليكن هو الخيار. ما الذي حدث؟ الشارع من المفترض له أن يكون ممتداً، فاضطر المهندسون إلى إنشاء دوّار يحيط بالشجرة ويظل التخطيط بعدها كما هو مرسوم له.
الشجرة فرضت نفسها على هندسة الطرق هناك، ومازالت إلى اليوم. نتحدث هنا عن شجرة غاف، لا ثمر يَطْعَمُه الإنسان، وإن كانت الماعز خصوصاً تعتبر أوراقها من ألذ أوراق الشجر في البيئة تلك، ومع ذلك ظل احترام الشجرة والبيئة قائماً منذ عهد المغفور له إلى يومنا هذا.
ذلك الحديث عن شجرة الغاف بما لها مكانة من في بيئتها. لم نتحدث عن النخلة. للنخلة محاذير بالدنو منها أو مجرد التفكير في قطعها، وإذا زادت أعدادها قطعاً قد تسقط الوزير المسئول!
أورد تلك القصة التي سمعتها من مهندس زراعي إيراني كان رئيساً لقسم الحدائق في بلدية العين وتخطيط المدن. الإمارات التي كانت في يوم من الأيام تحتل الصحراء الجزء الأكبر من الأرض فيها لندرة العمران والمياه ومن ثم التشجير، دخلت موسوعة غينيس للأرقام القياسية مؤخراً في أعداد شجر النخيل بوصولها إلى أكثر من 40 مليون نخلة!
ذلك وجه وصورة لبلد شقيق لا تفصلنا عنه ما يفصل أستراليا عن العالم. في الوجه والصورة هنا ماذا نرى؟ أول ضحية للتمدد العمراني، وإقامة المشروعات المربحة هي المزارع التي تشكل أشجار النخيل النسبة الأكبر منها.
جُلْ ببصرك في الجهات الأربع في بلد وضمن مساحته الصغيرة مقارنة بجيرانه، كان في يوم من الأيام بلد المليون نخلة. ما بقي لا يعدو كونه زينة، أو ترفاً للذين يملكون البساتين. بعض تمَّتْ مزاحمته، وخصوصاً أولئك الذين لم يرثوا غير الأرض ربما عن خمسة أو 10 أجيال. الطفرة النفطية لوّحت بإغراءاتها. أولئك البسطاء لم يُتركوا في حالهم. ضيق العيش لم يرحمهم هو الآخر. المتطلبات... الاحتياجات... طبيعة العصر وشروطه واستحقاقاته فرضت عليهم أن يبيعوا بساتين على شوارع رئيسة بثمن بخس. البعض ترك الأرض تنعق فيها الغربان، ويجلدها الملح والعطش حتى انحنت في موتها من دون أن تسقط!
جُل ببصرك على ما تبقى مما يسمى الحزام الأخضر الذي لم يعد كذلك. ستقف على «عطش النخيل»، وهو بالمناسبة عنوان ديوان شعري لعلي عبدالله خليفة وصدر في بيروت العام 1970، وقتها كان النخل حاضراً ويمتد كأنه الألِف في الأفق. لغة المكان هو، وأبجدية الحضور الأول في هذه الأرض الممعنة في تحولاتها، والغزوات، والحضارات التي اكتسبت منها وتعاقبت عليها في الوقت نفسه؛ وإن كان علي عبدالله خليفة وقتها يذهب في المجاز إلى عطش إنسان هذه الأرض، فيما النخلة كان رمزاً للثبات والرسوخ والامتداد والتجذُّر.
في الطفرات التي تحدث في مجتمعات ولدت وتحيا وتموت وهي مُستهلِكة، منجذبة إلى ما لا تصنعه، ولا تكلف نفسها عناء صناعة أبسط الأولويات فيما تحتاجه، تكون الأرض هي الضحية. الأرض ليس باعتبارها فضاء؛ بل باعتبارها جنة من جنان الله. يطولها الخسف. تزحف عليها الجرَّافات بطالعها السيء وهي تنتزع الأشجار من جذورها، شاهرة شهوة الخراب، وإيذاناً باستواء الأبنية التي لا تزيد هذه البيئة إلا قبحاً؛ فيما المجمّعات السكنية المغلقة على العالم المحيط بها، لها النصيب الأكبر من تلك المساحات بعد مجازر اجتثاث النخيل.
وليست أسطورة تلك التي يتناقلها الناس، ويعرفها المزارعون خصوصاً، عن الحزن الذي ينتاب نخلة حد الكمد، لتصل على الموت بانتزاع نخلة جاورتها لسنوات، أو طلعت من الأرض وأنبتت معها في يوم واحد.
يموت النخيل بشكل جماعي. أحياناً يُترك للموت فيما يشبه المجزرة. أن يترك في أرض سبخة لا يمرّها الماء ولو من أطراف الأرض البعيدة عنها. الأرض ماؤها الملح. ويمكن للإنسان نفسه أن يموت في أرض بهكذا مواصفات. طاردة للحياة بالسطو واستلال أرواح النبات جنباً إلى جنب مع أرواح الناس.
وبحسب تقرير نشرته صحيفة «الشرق الأوسط» بتاريخ (7 أغسطس/ آب 2010)، فإن النخلة يعود تاريخها من حيث أنواعها المتعددة إلى «بحسب العلماء، والحفريات، إلى 80 مليون سنة؛ إلا أن استخدام ثمرة النبتة أو الشجرة (التمر) للأكل بدأ في منطقة الشرق الأوسط، وبالتحديد منطقة الخليج العربي قبل أكثر من 5000 سنة».
آلاف من السنوات، ونشأة تمتد إلى ملايين منها، تنتهي بالشكل والصورة التي نشهد، كأنه موت الفجْأة الذي انتاب النخيل أيضاً!
لا نريد الوصول إلى درجة تحكّم شجرة في هندسة الطرق؛ على الأقل ألا يتحكّم العبث والجري وراء الإثراء السريع باجتثاث ذلك المخلوق بكل امتداده وتجذّره وقيمته ورمزيته وعطائه الذي لا ساقط فيه!
العدد 4308 - الإثنين 23 يونيو 2014م الموافق 25 شعبان 1435هـ
شجرة لو مسجد؟؟
في دولة خليجية معروفة تم ازالة المسجد الذي يتوسط الدوار علما بان المسجد اقدم من الشارع والدوار وذلك حفاظا على مرتادي المسجد.
معلومة
في أوائل السبعينات كان الشيخ زايد في زيارة في جنوب ايران و شاهد حديقة عامة اعجب بها. سأل عن مصممها. تعرف عليه و استخدمه للعمل في ابو ظبي. أقيم المهندس هناك و تكلفت الدولة بدراسة أولاده في الغرب. للمقارنة راجعوا النخيل التي زرعت علي شاطئ خليج توبلي شرق عمارات المناعي. كلها في حالة سجود. المهم المقاول قبض ثمن الزرع و وزع الفوائد.
الله كريم
الله كريم