شكل سقوط جدار برلين في أكتوبر/ تشرين الأول 1989 بداية انهيار الدول الاشتراكية وتفكك منظومة الدول الاشتراكية بقيادة الاتحاد السوفياتي والذي تفكك بدوره في العام 1991، وشكل بذلك نهاية النظام العالمي الذي تأسس نتيجة الحرب العالمية الثانية في يالطا بمنطقة القرم بالاتحاد السوفياتي حينها في 1945، وضم المنتصرون الثلاثة: زعيم الاتحاد السوفياتي جوزيف ستالين والرئيس الأميركي روزفلت، ورئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل.
بعدها تحدد النظام العالمي، بوجود معسكرين، الرأسمالي بقيادة الولايات المتحدة والاشتراكي بقيادة الاتحاد السوفياتي (مع وجود الصين الشعبية كحالة خاصة)، حيث اقتسما النفوذ في العالم، وتنافسا بل وتحاربا بالوكالة، لكنهما احترما قواعد اللعبة بعدم خوض حرب ضد بعضهما البعض.
وكان جدار برلين يرمز إلى الخط الفاصل بين المعسكرين، وهو رغم ما أحيط به من قصص مرعبة، وما يمثل من تقطيع أوصال ألمانيا وشعبها، إلا أنه لم يشهد أي اشتباك بين القوات المتواجدة على جانبيه. وهذا هو أيضاً الحال في باقي مناطق المواجهة. فقد تجنب الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة فيما عُرف بأزمة الصواريخ في كوبا في الستينيات، كما تجنبا عدة مواجهات أخرى.
منذ مؤتمر مالطا (1945) حتى انهيار جدار برلين (1989)، كان العالم الآخر ميدان صراع وتنافس بين المعسكرين. وكان الاتحاد السوفياتي ومعه المعسكر الاشتراكي، يؤمن بالحتمية التاريخية لانتصار الاشتراكية وتفوق النظام الاشتراكي على النظام الرأسمالي في كل شيء، وأنه يشكل نظاماً جاذباً ليس فقط لدول العالم الثالث التي كانت في مرحلة التحرر من الاستعمار أو تركته وتتوجه لاختيار نظامها السياسي، بل وحتى لشعوب البلدان الرأسمالية.
أما المعسكر الرأسمالي فقد كان يراهن على جاذبيته في بناء دولة الرفاه والحريات والإبداع، بما في ذلك انبعاث الدول المهزومة في الحرب وخصوصاً ألمانيا واليابان وكوريا الجنوبية وتايوان.
وقد دعمت الولايات المتحدة من خلال مشروع مارشال، إعادة بناء أوروبا الغربية التي دمرتها الحرب أيضاً.
راهن الاتحاد السوفياتي على دعم ما عُرف بدول منظومة عدم الانحياز والتي تحرّر معظمها من الاستعمار، مؤملاً بوصولها إلى الاشتراكية من خلال الطريق الثالث، أي العبور من التخلف إلى الاشتراكية دون المرور بالرأسمالية. وقد حقّق الاتحاد السوفياتي نفوذاً وتأثيراً كبيرين فيها من خلال إنجازات ملموسة مثل السد العالي في مصر، ومصانع الصلب والحديد في الهند، كما دعمها بمختلف السبل الاقتصادية والتعليمية والتسليحية وغيرها. بل إن بعضها مثل كوريا الشمالية وكوبا، وفيتنام ولاوس وكمبوديا وأثيوبيا واليمن الجنوبي، اختارت النظام الاشتراكي، وعدد كبير من دول العالم الثالث تبنى الاشتراكية الوطنية بطريقة أو بأخرى، ومنها مصر وغانا وغينيا وتنزانيا والجزائر ونيكارجوا وفنزويلا وتشيلي ومنغوليا.
في المقابل، رفعت الولايات المتحدة الأميركية راية الحرية، والمبادرة الشخصية ودعمت في البداية أوروبا في النهوض لتصمد أمام المعسكر الاشتراكي الناشئ، ثم العديد من دول العالم، لتحل بنفوذها محل الاستعمار القديم ممثلاً في بريطانيا وفرنسا وأسبانيا والبرتغال.
وكلا المعسكرين عمد إلى تشكيل أحلاف وتحالفات عسكرية، فالمعسكر الرأسمالي شكل حلف «الناتو» ليشمل أوروبا الغربية والولايات المتحدة وكندا. ورداً على ذلك شكّل المعسكر الاشتراكي حلف «وارسو» ليضم أوروبا الشرقية والاتحاد السوفياتي. كما عمد الغرب إلى تشكيل أحلاف إقليمية لمواجهة ما يعرف بخطر الشيوعية مثل حلف «السنتو» (حلف بغداد) لاحقاً في منطقة الشرق الأدنى. وقادت أميركا منظومات إقليمية اقتصادية سياسية مثل منظمة الدول الأميركية (النافتا) ومنظمة «آسيان» التي تضم الدول المطلة على جانبي المحيط الهادي (باستثناء الاتحاد السوفياتي والصين).
كما تجلى التنافس والصراع الاقتصادي في قيام السوق الأوروبية المشتركة لدول أوروبا الغربية مقابل «الكوميكون» الذي ضم دول أوروبا الشرقية والاتحاد السوفياتي مع اتفاقيات شراكة مع دول قريبة للخط الاشتراكي مثل كوبا واليمن الجنوبي والهند الصينية.
وإلى جانب المعسكرين وتحالفاتهما، وبتأثير الحرب الباردة وغيرها، عمد كل طرف إلى تشجيع ودعم منظومة من الأحزاب والاتحادات العمالية والمنظمات الأهلية النسائية والشبابية والطلابية والأدباء والكتاب والفنانين على الصعيد الوطني، ثم تطوّر الأمر لتشكيل تنظيمات على المستوى العالمي. فمثلاً قاد الحزب الشيوعي السوفياتي منظومة الأحزاب الشيوعية والاشتراكية، ولها مجلة دراسات اشتراكية ومقرها براغ، وتصدر بعشرات اللغات. كما دعمت قيام مجلس السلم العالمي ومقره هلسنكي، واتحاد النقابات العالمي ومقره براغ، واتحاد النساء الديمقراطي العالمي ومقره برلين الشرقية، واتحاد الشباب العالمي ومقره براغ، واتحاد الطلاب العالمي ومقره بودابست، ومنظمة التضامن الآسيوي الافريقي ومقرها القاهرة.
وكانت مهرجانات ومؤتمرات هذه المنظمات أداة مهمة للتأثير في نخب وشعوب العالم الثالث، وكذلك طمأنة نخب وشعوب الدول الاشتراكية إلى صواب خيارها.
كان يبدو أن العالم استقر على ترتيبات هذا النظام، والذي وإن منع قيام حرب عالمية ثالثة، إلا أنه لم يمنع قيام حروب أصغر ونزاعات حدودية وتوترات واعتداءات وأبرزها الحرب الكورية؛ وحرب فيتنام التي امتدت لتشمل الهند الصينية؛ والحروب الاسرائيلية ضد العرب بمشاركة غربية؛ والحروب المتكررة ما بين الهند والباكستان، والحروب العربية العربية، والأفريقية الأفريقية، والآسيوية الآسيوية، واللاتينية اللاتينية، والحرب العراقية الإيرانية، وحروب الغوار في أميركا اللاتينية، وحروب الحدود الصينية الفيتنامية وحتى السوفياتية الصينية. وهذه الحروب بمجموعها تشكل حرباً عالميه ثالثة.
لكنه أضحى تدريجياً واضحاً أن تفوق المعسكر الاشتراكي الأخلاقي والمثالي، يغطي على اختلالات داخلية في قلب هذا المعسكر، وهو الاتحاد السوفياتي والأنظمة الاشتراكية عموماً، والتي أصيبت بالعقم والركود والجمود الاقتصادي والسياسي، بحيث تحولت إلى رأسمالية دولة، بنظام الحزب الشيوعي الواحد الذي يحتكر السلطة وقيادات هرمة. بل إن الصراعات الداخلية بدأت تنخرها بحيث شهد الاتحاد السوفياتي نفسه صراعات داخلية على السلطة، تمثلت في الاقصاءات المفاجئة، كما في إقصاء خروتشوف مثلاً، وكذلك الأمر في باقي الدول الاشتراكية، بل انها اتخذت طابعاً دموياً كما في أفغانستان وكمبوديا. وامتدت الظاهرة إلى الحلفاء مثل اليمن الجنوبي وأثيوبيا والعراق والجزائر مثلاً.
وفي حين كان المعسكر الاشتراكي مصاباً بالركود الاقتصادي، كان المعسكر الرأسمالي رغم أزماته، يشهد ازدهاراً اقتصادياً، ما شكل جاذبية لهجرة العقول ليس من العالم الثالث فقط، بل من الدول الاشتراكية أيضاً.
أما السبب الثالث في انحدار المعسكر الاشتراكي، فهو الفشل في حل المشكلة القومية، فرغم الدعاوى أن القضية القومية لا تجد حلها إلا في النظام الاشتراكي، فقد تفاقمت المشكلة القومية في البلدان الاشتراكية المتعددة القوميات، خصوصاً في الاتحاد السوفياتي، وتفجّرت في حروب دموية بعد انهيار النظام القومي الكابح.
في محاولة أخيرة لإيقاف هذا الانهيار، جاء مشروع الإصلاح الذي قاده جورباتشوف في الاتحاد السوفياتي بعد الموت المتتابع للقيادات السوفياتية الهرمة. وليطرح استراتيجية اشتراكية بوجه إنساني، واقتصاد السوق الاشتراكي، وبعث ذلك موجة تفاؤل بإمكان إنقاذ النظام الاشتراكي من خلال الإصلاحات، وجرى التنظير لذلك من قِبَل ليس الأحزاب الحاكمة في المعسكر الاشتراكي بل في مجمل الحركة الشيوعية العالمية.
لكن النظام كان عصياً على الإصلاح، وهكذا انهار الاتحاد السوفياتي في 1991 ليصل إلى قمة السلطة الليبرالي بوريس يلتسين، ليحاول الحفاظ على الاتحاد الروسي، ويترك سائر جمهوريات الاتحاد السوفياتي لمصيرها.
وسرت موجة التغيير لباقي بلدان المعسكر الاشتراكي في أوروبا، بدعم من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، وكانت بوادر التغيير قد بدأت حتى قبل ذلك في بولندا. وتبعتها ألمانيا الديمقراطية، التي أنهت نظامها الشيوعي والتحقت بألمانيا الغربية، بشكل درامي إثر سقوط جدار برلين في 1989، وتمت عملية تصفية النظام الاشتراكي والاندماج في ألمانيا موحّدة في 1990. ثم تتالت عمليات سقوط الأنظمة الاشتراكية وإقامة أنظمة ديمقراطية على أنقاضها مثل عملية الدومينو في باقي بلدان أوروبا الشرقية، لتلتحق لاحقاً بالسوق الأوروبية المشتركة وحلف الناتو. وللحديث صلة.
إقرأ أيضا لـ "عبدالنبي العكري"العدد 4307 - الأحد 22 يونيو 2014م الموافق 24 شعبان 1435هـ
صباح الخير
وللحديث بقيه عرج علي دول امريكا الاتينيه لتري العكس من دول امبيرياليه وديكتاتوريه الي دول اشتراكيه وديمقراطيه