كاد يُسْلم ساقه للريح؛ أو كأنه كان متهيّئاً للدخول في سباق اختراق الضاحية لينجو بنفسه، لمجرد أن أوقفت السيارة وسألته عن رب عمله. بدت الحيوية عليه لينجو بنفسه من المكان. ربما حسبني مفتشاً تابعاً لوزارة العمل، أو ربما أحد «العسس» النهاريين التابعين إلى إدارة الإقامة والهجرة. لا أدري. في ثوان معدودة بدا شاحباً.
مكان بالقرب من البحر يسبق الساحل في منطقة جنوسان. ثمة أكثر من ورشة هناك تعمل بدأب منذ ساعات الصباح الأولى تحضيراً، وعملاً لإتقان فخاخ البحر (الحضور).
هنا حيث كاد أن يفر بخيط في يده، العامل الآسيوي الذي لم يطمئن إلا حين دنوت منه فقط لالتقاط الصور. لن يحدثك خائف عن مهنته. هو مشغول بنجاته، وسرعة مغادرتي للمكان.
يد تحيك بالرهيف من المعدن (خيوطه) فخ البحر. به يستدرج الكائنات هناك في غفلتها، عبْر هذا النسق من الحرفة. نسق يتيح الدخول ولكن لا باب يؤدي إلى الخارج.
يمدّ فخّه على الأرض يذرعه جيئة وذهاباً. يتفقّد ما غفل عنه. أي غفلة تعني فرصة لتلك الكائنات كي تنجو من الفخ. يعيد الكرّة. سترى الاطمئنان لإحكام تفاصيل الفخ البحري على ملامحه. مكْر المهنة، أو مهنة المكْر قد استتبّت واستوت.
ترك كثير من البحرينيين تلك المهنة القديمة قدم حضارتهم الضاربة في التاريخ. تركوا الأمر للقيام بتلك القيمة بالنيابة. حلّ الآسيويون الذين تغلغلوا في معظم الصناعات والحرف المرتبطة بالبحر، وإن لم يستطيعوا بعد التغلغل في حرف وصناعات لم يمسسها سوء أن تمتد إليها أيدي الغرباء، من بينها صناعة النسيج التي تكاد تندثر، وصناعة الفخار التي لم تنجُ من وجود آسيويين فيها. حرفة البحر صيداً، وإعداداً للفخاخ تكاد بعد زمن أن تسلّم قيادها إلى الآسيويين الذين بالكاد تكون ثمرة عنائهم مجدية. المحصول لرب العمل، ذلك الذي تتعدد مهنه واهتماماته، وأحياناً تفرّغه في انتظار الحصاد. هم من يصنع الاثنين معاً: الفخاخ أولاً، وما ينتج عنها من حصاد!
5000 سنة منذ أن عرفت هذه البلاد حضارة دلمون، والبحر يرتاد أهله، لا يرتادونه هم فحسب. يرتادهم بذلك الالتصاق به حدّ اعتباره موئلاً وطريقة حياة وتنفساً؛ ولكن هناك إما في تماس مع المياه الضحلة، وإما في العمق من تلك المياه. صار جزءاً من سلوك ووعي وإدراك واحد من أكثر الشعوب تحضّراً في العالم وقتها، وما بقي، يصارع عمليات التذويب الممنهج! عرفت التحضّر منذ فجر التاريخ. ساعدها البحر على الانفتاح على مختلف الأمم والحضارات والشعوب.
يشير إلى ذلك الباحث والمؤرخ البحريني محمد حسن كمال الدين بالقول: «لأن الحضارة الدلمونية حضارة بحرية كما يقال، فإن التفاعل بينها وبين ما كان قائماً من الحضارات آنذاك، كان من الأمور الطبيعية؛ بل الضرورية، إلى درجة التفاعل والتأثير والتأثر، فقد تفاعلت حضارة دلمون مع حضارة وادي الرافدين وحضارة «الأندوز» في وادي السند، كذلك تفاعلت مع حضارة «أم النار» بدولة الإمارات العربية المتحدة».
وأهل البحرين أكثر قدرة على التعايش مع العالم من حولهم، وأكثرهم حفاوة بالغريب العابر سواحلهم، ولا يجد بداً من الإقامة ولو لبعض الوقت. لم يعرف أهل هذه الأرض جفاء لمخلوق. ربما هو ذلك السبب في تعاقب الطمع على النعم التي توافرت لهم. بعض الغرباء كانوا عيوناً للذين سيأتون فيما بعد احتلالاً للأرض وتوهّم استعباد الإنسان.
بالعودة إلى فخاخ الماء، تلك التي تعدّدت حيلها وطرقها من
«القرقور، والشوار»: «الشبكة العريضة يكون من أعلاها عوامات من الفلّين ومن أسفلها ثقالات من الرصاص وتسمى شبكات الجسر أيضاً. تحتجز السمك الذي يحاول العبور من مكان إلى مكان آخر»، والحضرة، في ما يورده تفصيلاً الباحث حسين محمد حسين بأن الحضرة «تصنع من الجريد والشباك الحديدية أو ما يعرف بـ (السيم) وخيوط النايلون وأعواد البامبو والتي تسمى محليا (الخطرات) جمع (خطرة). وتُقام «الحضرة» بالقرب من الشاطئ أو في داخل البحر في المناطق التي ينحسر عنها الماء، وتكون الفتحة في اتجاه الساحل. بعض الحضرات تكون في مناطق ضحلة إلى درجة أنها تكون جافة جدّاً عند انحسار الماء عنها، وفي ذلك الوقت بالذات يُجمع السمك منها. البعض الآخر من «الحضور» (جمع «حضرة») يكون فيها مستوى الماء من نصف قامة إلى قامة واحدة عند انحسار الماء عنها عندما يجمع السمك بواسطة الشباك».
جريد النخيل جزء من مكونات ذلك الفخ. كتلة يابسة منه تنتظر دورها في تكوينه وصياغته النهائية.
في الفضاء المفتوح، جوار بحر قريب، ولصْق ما تبقى من بساتين تهتم بعلف الدواب، يتاح للمهارة هناك أن تكون في صحوها وانتباهها. ألاَّ تغفل عمّا يُظن أنه عابر. لن يكون كذلك بالنسبة إلى الكائنات التي هي موضوع تلك الفخاخ.
يزداد اطمئنان العامل الآسيوي: سيد الفخ ومحكم المكْر فيه، مع بدء انسحابي من المكان. هل كنت بمثابة فخ له، ذلك الذي احترف صناعة الفخاخ؟ يبدو الأمر كذلك!
العدد 4306 - السبت 21 يونيو 2014م الموافق 23 شعبان 1435هـ
القرقور
شكرا على الموضوع المميز. ولكن لدي استفسار: الذي اعرفه أن القرقور هو قفص من المعدن أو الجريد وليس شبكة بمفهوم الشباك الممتدة.
فلم ليس له مثيل
القضية المطروحة لها أهميتها لدي.. ولكن جمال صياغة الكلمات وقوة التعابير التي تنبض جمالا وذكاء استوقفتني لأتحقق من كاتب الموضوع.. ذلك السهل الممتنع.. أسلوب مميز لا يضاهى! سلمت يمينك أيها الكاتب البحريني العربي الاصيل!
اقول لك
يا استاذ جعفر الجمري لو رايح الى واحد يعمل مهنة بحرينية افضل وبسالك ليش ماتروح الى الشباب الى يبيعون الفواكه في الاشارات الضوئية مو افضل تنشر واقع الشعب البحريني
نعم هده جنوسان
مهنة قديمة ولا زالت حاضرة ويعيش عليها بعض اهالي جنوسان