مرّت زيارة السيد مقتدى الصّدر إلى تركيا في غُرَّة مايو/ أيار المنصرف من دون اهتمام يُذكر. الزيارة جدّ مهمّة إذا ما نُظِرَ إليها من خارج الأخبار الأوّليّة. لكنها قد تبدو أوضح حين يُنظر لها من كُوّة اللقاءات والبروتوكولات التي صاحبتها، فيُعاد إنتاج مقارباتها.
ما هو الملفت في الزيارة؟ أولا: أنها جاءت علنيّة وليست سريّة. ثانيا: أن الصّدر جاء إلى أنقرة من إيران وليس من العراق. ثالثا: أن الصّدر زعيم تيار سياسي وليس رئيس جمهورية أو حكومة أو برلمان لكي يستقبله غول وأردوغان كلّ على حِدَة.
رابعا: أنها جاءت بعد غياب طويل للصّدر، فآخر مرة ظهر فيها الرجُل بشكل علني كان في صلاة للجُمعة قبل أربع سنوات. ثم اختفى كلّيا ولم يُشَاهَد فيها مطلقا طيلة سنتين، قبل أن يظهر مرة أخرى على شاشة قناة فضائية عربية قبل سنة وشهرين. كلّ ذلك كان يجري في ظّل غموض يُحيط بأسباب ومكان استتاره.
خامسا: تفريع أنقرة زيارة الصّدر وإبعاد أي نمطيّة سياسية تُشَكّلها حين تمّ توزيعها أفقيا على السياسة والثقافة، حين ألقى محاضرة على سبعين نائبا بينهم نواب شيعة في البرلمان التُركي، وحين التقى بقوى سياسية مدنية تُركية.
سادسا: إعلانه موقفا سياسيا واضحا (بمعية كبار قيادات التيار الصدري) تجاه العملية السياسية في العراق، وأوضاع الاحتلال الأميركي من فوق الأراضي التُركيّة، الأمر الذي دَفَعَ بالمتحدثة باسم السفارة الأميركية في أنقرة كاثي شالو لأن تُبدي موقفا (ترحيبيا) حيال ذلك.
كلّ تلك التنبيهات تبدو مهمّة حين يتم قراءة الزيارة. لكن ورغم كلّ ذلك فإن الأهم هو إرهاصاتها وكيف تمّت. ثم ربط تلك الإرهاصات بمُخرجات الزيارة التي بدت وكأنها صائرة إلى شكل من أشكال الأحداث والملفات الإقليمية المُشكّلة بإتقان.
الزيارة جاءت بترتيب إيراني. وقد تكفّلت سفارة طهران في أنقرة بالإعداد لها قبل أسابيع. والإيرانيون بذلك يرمون إلى «الجرح والتعديل» في عدد من معادلات المنطقة وبالتحديد العراق، ليكتمل مشهد الصورة «رغبة إيرانية، وقبول تُركي، وطموح سياسي صدريّ» لتُبتَنى العلاقة الثلاثية وفق التشكيل التالي من الخيارات:
خيار الطائفة: ويكمن في أن المدماك الإقليمي لشيعة العراق يرى الحالة المذهبية من منطلق «التنوع في عين التضامن والكثرة في عين الوحدة والثبات في عين التعايش». بمعنى أن سياسة الدّعم لهم تكمن في معادلة: «شيعة يُكرّسون واقعا سياسيا استراتيجيا وآخرون يُكرّسون واقعا عسكريا مرحليا ضد الاحتلال الأميركي».
وبالتالي فهم يرون اليوم ضرورة إعادة ترميم التيار الصّدري بعد معارك حكومة المالكي معه في مدينة الصدر والبصرة، يُدعّمها تحقيق التيار نتائج جيدة في الانتخابات المحلية العراقية، الأمر الذي يُعيد حضوره داخل النظام بشكل قوي.
خيار المشترك الأمني: ويظهر في أوجه التشابه بين طهران وأنقرة داخل الملف العراقي. فالإيرانيون لديهم حلفاء وأصدقاء (الشيعة بعموم أحزابها). والأتراك هم أيضا لديهم حلفاء وقوميات حليفة لهم (التركمان مثالا).
كذلك هما يتشاركان في القضية الكردية. فحزب العمّال الكردستاني يقاتل تركيا من شمال العراق. وحزب الحياة الحرّة (بيجاك) الإيراني يقاتل طهران من جبال محافظة السليمانية ومناطق بنجوين بشمال العراق أيضا. وبالتالي فالمصالح كبيرة بين البلدين.
خيار الاستقرار الإقليمي: ويكمن في النظرة إلى أن إشراك تركيا عبر أهم فصيل سياسي عراقي بإشكالات الداخل العراقي من شأنه أن يُخفّف من أي تبعات قد تنتج من عملية إعادة انتشار الجيش الأميركي من المدن العراقية إلى الثكنات والقواعد العسكرية.
خيار عَثْمَنَة الإسلام السُنّي: ودفوع ذلك تقول: إن حضورا تركيا أكبر في ملفات المنطقة بشكل عام والعراق بشكل خاص سيكون أقلّ كلفة للبعض من حضور عربي تقوده تحالفات عربية غربية شائكة ومتورّطة في غير ملف إقليمي تمّ قليُه على نار مذهبية. ويُمكن رؤية ذلك الترحيب والدفع بالحضور التركي أثناء عدوان غزّة بداية العام الجاري، والمماحكة الشهيرة التي جرَت بين رئيس الوزراء التركي رجب طيّب أردوغان وبين رئيس الكيان الصهيوني شمعون بيريز في دافوس.
خيار التمّدد الصّدري: ويظهر في تحوّلات التيار الصّدري وانشغاله بالتعدد العَملاني على الأرض. هو الآن يتمثّل برلمانيا بكتلة نيابية صلبة، وسياسيا بالتّواجد في الحكومة أو على الأقل في حوافّها، وعسكريا في جيش المهدي وعصائب الحق.
كذلك هو يريد (التيار الصّدري) من زيارته لأنقرة إعادة تقديم نفسه بطريقة غير طائفية بعدما لحِق به من سُمعة غير جيدة خلال الحرب الطائفية بعد أحداث تفجير المرقدين العسكريين في فبراير/ شباط 2006. والابتعاد ما أمكن عن قوس ذلك الضّم الآلي للتيار.
ويُمكن فهم ذلك من خلال الأنشطة غير الطائفية التي قام بها الصدريون في الآونة الأخيرة مع قوى سُنّية في بغداد والأنبار، كالصلوات المشتركة والزيارات العشائرية والائتلافات البرلمانية في مسائل متعددة وأهمها مسائل تعويض السجناء العراقيين غير المُدانيين في مسائل جنائية.
وفي الحالة الوطنية قام التيار الصّدري في الثلث الأخير من الشهر الماضي بمبادرة للوساطة بين قائمة «الحدباء» العربية والقائمة الكردية في الموصل لحلّ قضايا مختلفة تخص المحافظة وأهمها وضع المجلس المحلّي وقوات البشمركة.
وربما تكون تلك الخطوة داخلة من نافذة فرعية نحو تركيا التي ترى تمدّد الأكراد خارج حدودهم المباشرة قد يُؤثّر على المصالح التركية. وأن زيادة نسبة الأكراد عن 7 في المئة من مجموع الجيش العراقي قد يُعطي الأكراد سطوة إقليمية أكبر.
في المحصّلة فإن الزيارة قد تمّت. واستفادت منها أطراف الثالوث المتحالف. لكن الأكيد أيضا هو قيمة ذلك على الأرض. فالسّاحة السياسية العراقية تعجّ بالمتغيّرات والتفاعلات. بدءا من ترقّب الانتخابات النيابية ومرورا برغبة البعض في تغيير آلية التعايش السياسي. وفي كلّ ذلك حسابات يُنظر لها بعناية.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 2460 - الإثنين 01 يونيو 2009م الموافق 07 جمادى الآخرة 1430هـ