العدد 4305 - الجمعة 20 يونيو 2014م الموافق 22 شعبان 1435هـ

وثيقة: الإنجليز والكوليرا في جزر البحرين

المنامة - محمد حميد السلمان 

20 يونيو 2014

في الساعة الثامنة صباحاً، من قرب ساحل القطيف، وفي (30 يوليو/ تموز 1851) أُرسلت هذه الرسالة من الملازم (و.أم. بلفور)، قائد السفينة الانجليزية (الفرات) يقول فيها: «سيدي، بعد ساعات قليلة على إرسال رسالتي في 26 من الشهر الجاري، يؤسفني القول إن مرض الكوليرا ظهر مجددًا وفتك بالأطراف المذكورة أسماؤها أسفل الرسالة».

الكوليرا... اسم مرعب في تاريخ منطقة الخليج، بل وفي جنوب وشرق آسيا منذ عقود تاريخية بعيدة. فهذا المرض الفتاك في ذلك الزمان لم يكن من السهل وقف انتشاره أو القضاء عليه حين يظهر. كان أول ظهور مسجل له في البحرين، وللمصادفة، بعد توقيع اتفاقية السلام العامة العام 1820 بين السلطة البريطانية في الخليج وحكام المشيخات الصغيرة في ساحل عُمان الشمالي وجزر البحرين في تلك الفترة.

وبما أن بريطانيا العظمى كانت تستعمر القارة الهندية في تلك الأزمان وامتدت سلطتها إلي منطقة الخليج وكانت تجلب مرتزقتها من معظم بلاد الهند ومن الطبقات الفقيرة بالذات، وبما أن تاريخ الأمراض والأوبئة العالمية يذكر أن نهر السند كان على مدى التاريخ موطن ظهور مرض الكوليرا في العالم؛ فمن السهولة تتبع سُبل وصول مثل هذه الأمراض الفتاكة وفيروساتها إلى الخليج ومنها البحرين.

ولسنا هنا في مستهل ذكر تاريخ هذا المرض وسبب تسمية انتشاره القوي بـ (سنوات الرحمة) وغيرها، حين حل بالبلاد وأفقر بعض البيوت من سكانها في مطلع القرن العشرين؛ ولكن كما عودناكم، سنعرض لعدة وثائق بريطانية تناولت عن طريق المشاهدة والمعاناة تأثيرات هذا الوباء الفتاك في منتصف القرن التاسع عشر للميلاد، وبعض أخباره خلال أهم فترات الصراع السياسي في الخليج، وعن جزر البحرين تحديداً، بين القوى الإقليمية على الساحلين من جهة، والسلطات البريطانية من جهة أخرى.

الوثيقة الأولى، هي عبارة عن تقرير أرسله في يوليو من العام 1851 تحت رقم 133 العميد البحري (I. P. Porter) قائد أسطول الخليج الفارسي، إلى المقدم (S. Hennell)، المقيم في الخليج الفارسي، كما هو مدون. وبعد أن ذكر بعض الأحداث السياسية والعسكرية في جزر البحرين وحولها، يقول بوتر في نهايته: «يشرفني أن أرفق نسخة عن رسالة تلقيتها للتو من الملازم (بلفور)، قائد (الفرات) وهي السفينة الشراعية ذات الصاريين، التابعة إلى صاحبة الجلالة، سيتبين لك منها أنه قد خسر اثنين آخرين من رجاله جراء مرض الكوليرا. وأود أن أطلب تعليمات محددة فيما يتعلق بمراكب آل النعيم، وذلك لإنهاء الموضوع؛ لأنني أخشى أن يصيبنا هذا المرض في حال توقفنا لمدة أطول في مياه البحرين، فهناك 24 شخصاً في قائمة المرضى على متن سفينة (الفرات).

(H. C. S. Clive)، البحرين- 31 تموز/ يوليو 1851 يشرفني أن أكون القائد- (توقيع) (I. P. Porter)».

والوثيقة الثانية، وهي التي بدأنا بها موضوع اليوم، دونت أيضاً في نهاية شهر يوليو من العام نفسه 1851، من الملازم (W. Balfour)، قائد السفينة الانجليزية (الفرات) وأرسلت إلى العميد البحري I. P. Porter قائد الأسطول في الخليج الفارسي، ووافق عليها المقدم (S. Hennell)، المقيم في الخليج، وتذكر أن الكوليرا أصابت كلاًّ من اللواء توماس هيرتون الذي أصيب بالمرض عند الساعة الخامسة مساء في 26 من الشهر، وتوفي عند الساعة العاشرة وخمس دقائق مساءً في 27 من الشهر. وكذلك اللواء جورج سوزرلاند أصابه المرض عند الساعة الحادية عشرة والنصف مساءً، وتوفي عند الساعة الواحدة وعشر دقائق ظهرًا في 27 من الشهر.

أما الوثيقة الثالثة فهي مرسلة من المقيم السياسي في الخليج Hennell، إلى A. Malet، السكرتير العام لحكومة بومبي، بتاريخ 5 أغسطس/ آب 1851م من معسكر قرب بوشهر، وتحمل رقم 16 لعام 1851، وهي رسالة سرية في وقتها؛ لأنها تتحدث عن بعض القضايا السياسية في الخليج، وعن إصابة كبار ضباط الجيش البريطاني في المنطقة بمرض الكوليرا.

ضمن هذه الوثيقة يذكر المقيم Hennell، في البند الخامس منها، ما يأتي: «وباء الكوليرا ينتشر بسرعة في البحرين، إضافةً إلى ظهور حالات وباء أخرى قاتلة على متن سفينة الفرات، مع الإشارة إلى التزايد السريع في أعداد مرضى الأسطول في المنطقة الموبوءة بجوار البحرين والقطيف».

وفي تعليق سريع على هذه الوثائق الحصرية، وفترات انتشار مرض الكوليرا في البحرين والخليج، دون تعمد زجها في السياسة، يلاحظ ارتباط هذا المرض والأوبئة عموماً، بالأحداث السياسية بشكل غريب. وهذا ليس تخيلاً أو شططاً في القول من دون دليل. فالكوليرا والسياسة متلازمان في الخليج والبحرين بالذات، فقد أشرنا إلى بدء انتشار هذا الوباء العام 1821، أي بعد عام واحد فقط من توقيع بريطانيا اتفاقية 1820 مع مشيخات الخليج ومنها البحرين. كما انتشر المرض خلال الصراع على البحرين ومحاولة غزوها من قبل قوى الجارة الإقليمية العامين 1850-1851. ثم عاد وباء الكوليرا وظهر من جديد خلال فترة الأحداث والخلافات الداخلية بين 1893- 1899، واشتدت حدته مع اشتداد حدة الصراعات وتوتر الأوضاع المحلية. وخسرت البحرين 33 في المئة من إيراداتها السنوية بسبب الحظر الصحي على السفن البحرية بمنع توجهها نحو البحرين. ثم عاد مرض الكوليرا مرة أخرى وتركز في المنامة والمحرق، خلال اشتداد الصراع على قضية الجمارك، وموقف الحاكم الشيخ عيسي بن علي آل خليفة من بريطانيا في تطبيق نظام الجمارك الهندي على البحرين. ثم محاولة بريطانيا فرض الحماية رسميّاً على البحرين ما بين 1904-1906. وقد تسبب الوباء ذاك العام بوفاة نحو 2000 شخص تقريبا، من سكان البحرين الذين لم يكن يزيد عددهم حينها على 30 ألف نسمة، أليست للكوليرا علاقة بالسياسة أبداً؟

العدد 4305 - الجمعة 20 يونيو 2014م الموافق 22 شعبان 1435هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً