من بين الدراسات الاجتماعية الجميلة التي اطلعت عليها مؤخراً دراسة بعنوان: «الوشاية وأثرها على أمن المجتمع» للباحث وليد إبراهيم المهوس (من المملكة العربية السعودية)، ويكمن عمقها في أن الباحث التفت إلى ظاهرة منتشرة في المجتمع الخليجي بشكل مذهل، وهي واحدة من أهم أسباب سوء الإنتاجية والتدهور المهني والأخلاقي في الكثير من أماكن العمل، حكومية وغير حكومية.
ولعل من أهم صور تلك الظاهرة في أماكن العمل، الاستعانة بفريق «مخابرات السيد المسئول» الذي يكلف مجموعة من الموظفين والموظفات للعمل كآذان وأبصار تنقل له كل شاردة وواردة، حتى أن الباحث جمع في سلوك أمثال أولئك الوشاة صفات الحسد والرذيلة والكذب والنميمة والغيبة والبهتان وشيوع المفاسد الخلقية والاجتماعية وقتل الثقة بين أفراد المجتمع.
في الحقيقة، قد تنتابك حال من الضحك الهستيري إلى درجة البكاء وأنت تستمع إلى معاناة موظف أو موظفة وقعا تحت نيران «المسئول» وقصفه المستمر، بسبب «وشاية» نقلها إليه أحد الموظفين أو الموظفات من «ناقلي الكلام والفتانين كما نقول بالعامية»، ومن دون تَثبُّت من صحة النقل أو عدمه، فتنتفخ أوداج المسئول ويستشيط غضباً ويجعل الموظف المتهم هدفاً لتشفية الغليل فيحرمه من الترقية، ويضيق عليه الخناق، وقد يكتب التقرير تلو التقرير عن سوء أداء الموظف.
وليس الباحث «المهوس» من تناول هذه الظاهرة المضرة وحقق تجاوباً كبيراً كون الناس يشعرون بها، فهناك دراسات اجتماعية أيضاً تناولت ممارسات بعض المسئولين الذين يوظفون إمكانات بعض موظفيهم لا من أجل المزيد من الإنتاج وتطوير العمل، ولكن من أجل المراقبة والترصد ونقل الكلام، وينقلون ما صح وما لم يصح، إلى السيد المسئول... وللأسف، فإن هناك الكثير من المسئولين يعشقون هذا الفعل فيستمعون بأذن واحدة ويرون بعين واحدة.
قبل عدة سنوات، وقبل أن ينتشر استخدام البريد الإلكتروني ووسائل التواصل الاجتماعي والوسائط التقنية الحديثة والمواقع الالكترونية، كتبت تحقيقاً صحافياً كان عنوانه «الرسائل الصفراء»، وتلك الرسائل كانت عبارة عن وشاية تصل إلى مكاتب بعض المسئولين من مصادر مجهولة، وفي مضامينها الكثير الكثير مما يندى له الجبين، فمن اتهام لمسئولٍ ما بالطائفية، إلى تشويه سمعة موظف أو موظفة، إلى كشف عمليات سرقة واختلاسات ومن بين تلك الرسائل، هناك الكثير من محاولات الإطاحة بموظف أو موظفة عبر معلومات هي في غالبها مكذوبة.
ولكن الغريب في الأمر، أن بعض الجهات، حكومية وخاصة، من انتشرت فيها الرسائل الصفراء، كانت تحقق بشراسة مع الموظف أو الموظفة (المقصود) في الرسالة مجهولة المصدر، وكأن كل ما ورد فيها صحيح، ويلزم على من أنكر أن يأتي بالبيِّنة! يعني أن المتهم هو الذي يتوجب عليه تقديم البيِّنة، وليس المدعي قطعاً لأنه... مجهول!
قد لا أتفق مع الباحثين الذين خلصوا إلى توصيات من قبيل قيام مؤسسات المجتمع التربوية بغرس روح الجماعة وأسس الإيمان وتوعية المجتمع بأثر الوشاية السيء على كل أفراده، وإقامة المحاضرات وحث الدعاة والمربين والباحثين للتصدي لها، فهذه كلها نقاط جميلة... لكن الأهم والأسرع والأكثر تأثيراً من وجهة نظري هو الدقة في اختيار المسئولين، ومن يثبت أنه يمارس هذه الممارسات الشنيعة، فلا أقل من مساءلته ومعاقبته فهو وجه سيء لفاقدي القدرة على حمل الأمانة الوطنية، ولقمة عيش الناس ليست لعبةً في يد أمثال أولئك المرضى النفسانيين.
إقرأ أيضا لـ "سعيد محمد"العدد 4305 - الجمعة 20 يونيو 2014م الموافق 22 شعبان 1435هـ