بدأت الدول الكبرى تجري الاتصالات العلنية والسرية استعدادا لاستقبال النتائج السياسية التي ستسفر عنها الانتخابات اللبنانية. فالتوقعات التي رصدتها أجهزة الاستطلاع تشير إلى احتمالات متقاربة وأحيانا ترجح فوز قوى 8 آذار بمقعد أو مقعدين. وبناء على هذه الاحتمالات الغامضة وغير الحاسمة أخذت الدول الكبرى تستعد للتعامل مع سلطة سياسية يمكن أن تتشكل من تركيبة وزارية غير متعاونة.
الاحتمال النهائي يمكن تأجيله إلى ما بعد 7 يونيو/ حزيران الجاري إلا أن الدول الكبرى وضعت في حساباتها كل السيناريوهات بما فيها إمكان فوز قوى 8 آذار بغالبية كاسحة ودخول حزب الله إلى التركيبة الوزارية من موقع الطرف الأقوى في المعادلة اللبنانية.
كيف ستتعامل الدول الكبرى مع هذا الاحتمال المستبعد حصوله؟ هناك إشارات متخالفة صدرت في هذا الاتجاه تراوحت بين الاستعداد للتعارف والتفاهم مع الحكومة الجديدة وبين إبداء التحفظ عن التعاون والتبادل.
التحفظ جاء من الجانب الأميركي إذ أبدت إدارة البيت الأبيض عن خشيتها من تعطيل بيروت لمفاعيل القرارات الدولية وتحديدا 1701 الذي يشتمل على ضبط الحدود وضمان أمن «إسرائيل» وانتشار الجيش اللبناني في الجنوب ومنع تسلل المسلحين إلى القرى الأمامية التي تشرف قوات القبعات الزرق (اليونيفل) على إدارتها وحراستها.
الجانب الأوروبي كان أكثر انفتاحا إذ أبدت دول الاتحاد استعدادها للتعاون والتفاهم بشرط أن تلتزم حكومة بيروت بالقرارات الصادرة عن الأمم المتحدة والتعهدات والاتفاقات الموقع عليها وتحديدا تلك المتصلة بالمحكمة الدولية والمساعدات المالية والاقتصادية.
الانفتاح الأوروبي على أطراف من قوى 8 آذار تحفظت الولايات المتحدة عليه لأنه أعطى إشارة خضراء قبل أن تتوضح معالم خريطة الطريق الانتخابية. فالإدارة الأميركية عاتبت لندن على تسرعها في إرسال المبعوثين ودعوة ممثلين رسميين عن حزب الله للحضور إلى بريطانيا وإلقاء محاضرات في مجلس العموم. كذلك تحفظت واشنطن على تلك المرونة قبل التعرف على تفصيلات المواقف التي ستتخذها الحكومة المقبلة في برنامج عملها الوزاري.
بناء على هذه الملاحظات الجانبية قررت واشنطن اتباع خط مستقل عن الاتحاد الأوروبي يعتمد منهجية نقدية وربما سلبية في حال ظهرت علامات مخالفة في برنامج الحكومة اللبنانية. وخلال زيارة نائب الرئيس الأميركي جون بايدن الخاطفة إلى بيروت أوضح في مؤتمره الصحافي أن واشنطن ستعيد النظر بالكثير من تصوراتها وإنها ترهن مساعداتها ودعمها للحكومة بناء على تشكيلتها وتوجهاتها. وفهم من كلام نائب الرئيس الأميركي أن إدارة باراك أوباما تنتظر النتائج النهائية لتقرر في ضوء التشكيلة الحكومية المقبلة خطواتها وأسلوب تعاملها وتعاونها. إلا أن الجديد في الأسلوب الأميركي تركز على محاولة الفصل بين طبيعة التشكيلة الوزارية وموقع الرئاسة حين أكد بايدن أن واشنطن ستركز دعمها لرئيس الجمهورية وستواصل تقوية أجهزة الجيش وتعزيز القوى الأمنية بالمعدات والأسلحة والذخائر.
محاولة الفصل التي أشار إليها نائب الرئيس الأميركي بين رئيس الجمهورية والمؤسسة العسكرية من جانب وبرنامج الحكومة المقبلة من جانب آخر أكدت المراهنة على موقع الرئاسة وأهمية تعزيزه لتحقيق التوازن مع سلطة رئاسة الحكومة في حال ذهبت إلى قوى 8 آذار. فالتوازن مشروط بطبيعة التشكيل الوزاري للحكومة الجديدة وهو يرتبط أيضا بوجود بديل رئاسي يتمتع بصلاحيات قوية تعطيه حق نقض أو تعديل تلك القرارات التي يمكن أن يتخذها مجلس وزراء تتحكم به قوى 8 آذار.
الموقف الأميركي الذي سجل رسميا مجموعة ضربات استباقية بشأن احتمال حصول مفاجأة في الانتخابات النيابية جاء متسارعا قياسا بتلك الخطوات الأوروبية. فالاتحاد الأوروبي أوضح رسميا أنه لن يلجأ للمقاطعة وفرض الشروط أو الحصار كما حصل مع حركة «حماس» حين فازت بالانتخابات النيابية الفلسطينية. إلا أن الاتحاد طرح مجموعة أسئلة على الجهات المعنية للتعرف على مواقفها بخصوص نقاط تعتبرها جوهرية لتقرير طبيعة العلاقة ونوعيتها ومستوى درجتها؟
الأسئلة تركزت على مجموعة نقاط مهمة وهي تشتمل سلسلة أبواب تبدأ بالأمن وتنتهي بالاقتصاد والسياسة المالية. فهناك أولا القرارات الدولية من 1559 إلى 1701. وهناك ثانيا الإجراءات العملية المتصلة بالمحكمة الدولية وتعاون الحكومة مع هيئة التحقيق والمدعي العام. وهناك ثالثا المساعدات العسكرية للجيش اللبناني. وهناك رابعا العلاقة مع صندوق النقد الدولي والدعم الأوروبي لإعادة الإعمار ومسألة الديون والأرصدة وغيرها من موضوعات أخرى تتصل بالاستقرار وضمان أمن الحدود والعلاقات الدبلوماسية مع الجوار والقوى الإقليمية وحرية الصحافة والرأي والمعتقدات وصيانة الاختلاف وعدم التدخل في نهج الحياة ونمط المعاش وتداول السلطة.
الاتحاد الأوروبي كما يبدو ينتظر الأجوبة العملية والتوجه الميداني حتى يؤسس رؤيته في ضوء نتائج الانتخابات. ودول الاتحاد التي قررت تأجيل موقفها النهائي أبدت استعدادها المبدئي للتعامل مع الحكومة الجديدة مهما كانت نوعية تشكيلتها.
إسقاط دول الاتحاد الشروط المسبقة أسس ثغرة خلافية بين الطرفين الأميركي والأوروبي. فالولايات المتحدة قررت عدم المقاطعة ولكنها أوضحت أن اتصالاتها ستتركز على خط رئيس الجمهورية وتدعيم مؤسسة الجيش باعتبار أن الرئاسة يمكن الاعتماد عليها بصفتها الخيار البديل أو المتوازن. وأوروبا قررت التعاون ولكنها وضعت تحفظات في صيغه أسئلة تنتظر أجوبة عملية وميدانية عنها حتى تقرر خطوتها النهائية بشأن التفاهم مع تشكيلة وزارية قريبة في توجهاتها من المحور السوري- الإيراني.
هناك إذا استعدادات دولية مبكرة للتعامل مع تداعيات سياسية قد تعكسها الانتخابات النيابية اللبنانية في 7 يونيو الجاري. والاستعدادات كما يبدو وضعت كل الاحتمالات من بينها إمكان نجاح قوى 8 آذار في كسر التوازن الداخلي وإعادة تشكيل معادلة جديدة في بلاد الأرز.
الاحتمال وارد ولكنه غير مرجح حتى لو أشارت بعض الاستطلاعات إلى وجود غلبة جزئية وبسيطة لهذا الفريق أو ذاك. والسؤال هنا ليس من سيفوز في الانتخابات بل ماذا يستطيع أن يفعل الطرف الناجح في حال كانت المعادلة متقاربة إلى حد تمنع القوى السياسية من ممارسة حقها في الحكم. فالفوز في هذا الإطار الأهلي المشدود على خطوط التوتر العالي المحلية والإقليمية يقارب كثيرا اللافوز.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2460 - الإثنين 01 يونيو 2009م الموافق 07 جمادى الآخرة 1430هـ