كثيرة هي المعالجات الذكية والعميقة لجهود شباب بحرينيين في مجالات شتّى، والأفلام خصوصاً في واقع طارد للمواهب، ومحاصِر لها في زمن يعجّ بالمصادرات والمزاج، وإنتاج الخيبات، وتكريس اليأس إلى درجة اعتباره ضرورة من ضرورات الحياة التي يُراد لها أن تكون اليوم. والوهم. علينا ألا ننسى الوهم، هو الآخر ضمن ما يُراد تكريسه ويتم تسويقه.
يأتي فيلم «أوراق الزَبد»، الذي كتب له السيناريو حسين البزّاز، وتصوير أحمد حسين، تمثيل: حسين البزّاز، سيدمحمد العلوي، حسين كروف، ونضال، وتم إنتاجه من قِبل «الفجر للإنتاج الفني»، وساعد في الإخراج سيدمحمد العلوي، وإخراج محمد حسن، باعتباره واحداً من تلك المعالجات التي تم اختزالها عبر الفيلم الذي لم تتجاوز مدّته 5 دقائق و55 ثانية. معالجة اختزال القيم ضمن وهم خاص. لكل وهمه الذي يريد من خلاله أن يسيّر العالم/عالمه بحسب مبتغاه وما يشتهي!
تبدأ قصة الفيلم بالشخصية الرئيسية (حسين البزّاز) وهي تتأبّط كتاباً، وبخطوات بطيئة تشق طريقها. الطريق ليست واضحة المعالم. يتصفّح الكتاب/المخطوط في مكان قد يكون بيته. قد يكون مكاناً آخر، ليست تلك هي المسألة. يطل على شُرْفة لثوانٍ معدودة ليعود أدراجه. تأخذنا الكاميرا إلى الشارع. متسوّل على الجادّة: لله يا محسنين... يمر شخص يضع عُملة معدنية في يده ويواصل طريقه. يمر صاحب الكتاب بخطواته البطيئة... يقف متأملاً المتسوّل... يُدخل يده في جيبه... يقترب من المتسوّل... يرمقه بنظرات... يتحسّس جيب البنطال... يخرج يده فارغة... يُدخل يده في جيب قميصه... يخرجها فارغة... يقترب من المتسول قائلاً: اصبر... انتظر... الصبر مفتاح الفرج! ويواصل طريقه.
تأخذنا الكاميرا إلى ورشة بناء... عامل يعمد إلى التقاط قطع من الطوب ليضعها في دلو... يتقدم صاحب الكتاب/المخطوط بخطواته البطيئة أيضاً... يسأل العامل: ويش تسوّون؟
نبني. يجيب العامل.
يسأله مرة أخرى: تبنون لمن؟ ويشير إلى الكتاب قائلاً: هذا وبسْ!
نبني. يكررها العامل، في استهجان للموقف!
تعود الكاميرا في صيغة شبيهة باللوحات. هذه المرة في طريق عام آخر. طفل يتحسّس أوراق شجرة، يحمل عدداً من الورود... ينظر صاحب الكتاب/المخطوط إلى الطفل. يبادله الطفل النظرات. يتقدم الطفل إليه بوردة وهو متأبّط الكتاب. ينظر إلى الوردة، يرمي بها أرضاً. «اترك عنك الورد. ما يفيدك. هذا وبسْ... هذا» وأشار إلى الكتاب/ المخطوط.
في طريق ممتلئ بالأوراق الجافة، يمر وهو يقلّب الكتاب/المخطوط، يعمد إلى احتضانه. يتخذ من جذع شجرة موضعاً لجلوسه. يقلّب الكتاب/المخطوط مرة أخرى. يأخذنا المخرج إلى «الفلاش باك»، في استعادة للأشخاص الذين التقاهم. بعض لم يلتقِهِم: وهو يرفض الورد، الصحيفة، الحقيبة، وجبة غذائية سريعة، أقلاماً... يقرأ الكتاب/المخطوط. قرب نهاية الفيلم القصير، جدار أبيض يعبره أشخاص. ينفذ منه: المتسوّل، صاحب حقيبة، امرأة تحمل باقة ورد، عامل البناء، وحين يأتي دوره يحاول النفاذ من الجدار. تلتصق رجلاه في الأرض، محاولاً رفعها. لا جدوى. يتأمل الكتاب/المخطوط. يحاول إدخال الكتاب إلى الجدار الأبيض، تنتهي ملامح الشخصية الرئيسية بالحسرة وكثير من المرارة بنهاية الفيلم!
تكمن قيمة الفيلم في ثِيمة اختزال حركة الناس في معاشهم وعلاقاتهم وسعيهم للعناء اليومي والاشتغال، ومن خلال قيمة محدّدة يتم إقحامها وفرضها على الناس، فيما صاحب تلك القيمة مكتفياً، راضياً، مقتنعاً؛ بل ومطمئناً لمراقبته كل أولئك، منتقداً، ساخطاً، مُحتجّاً. وهو احتجاج فارغ من دون قيمة!
العنوان «أوراق الزبد»، هو المدخل للطرح الذي تناوله الفيلم. الزبَد بما يمثله من وهن وما يمثله من مؤقت وتلاشٍ وذوبان.
لم تبدأ «اللازمة المتكررة» في مشاهد الفيلم/لوحاته: «ما يفيدك. هذا وبسْ» في مشهد المتسول. ستكون نوعاً من الإهانة والسخرية، وغير مقنعة أن يواجه أحد متسوِّلاً بالقول: «ما يفيدك إلا هذا» (الكتاب/المخطوط). في بقية المشاهد حصل الاستهجان ممن جوبهوا بتلك «اللازمة»، لا أحد سيعطّل حياته استناداً إلى قيمة واحدة تتمثل في الكتاب/المخطوط كما ارتأى بطل الفيلم، وهو كاتب السيناريو (حسين البزّاز)، في انشداد إلى ماضٍ، ربما حمل بعض سماته «المخطوط» في اقتراب الكاميرا منه أكثر من مرة. لا يمكنك أن تعطل بناء، وتتفرّغ إلى قيمة. لن تشيّد بناء وأنت مشدود إلى تلك القيمة، ولاشيء غيرها، من دون حراك ومبادرة واستئناف للدور الذي من المفترض ألاّ يتوقف ضمن حلقة مستمرة ومكمّلة.
كثيرون بيننا اليوم ممن ينهج ذلك النهج. نهْج قيمة يتم تعطيل ما بعدها وفي الوقت نفسه محاولة تعميمها بالصورة والصيغة التي تم تقديمها في الفيلم. إنه الوهم ذاته الذي يأتي في أكثر من صورة؛ حتى في كتاب. الكتاب الذي من المفترض أنه على الضد من ذلك، لما له من قدرة على التنوير والتحفيز وخلق المبادرات. ربما يكون ذلك نتاج خيبات متوالية تظل مع مرور الوقت باعتبارها قدراً وأسلوب حياة وطريقة عيش. وكما بدأت مقدّمة هذا الاستعراض بـ: علينا ألاّ ننسى الوهم، هو الآخر ضمن ما يُراد تكريسه ويتم تسويقه. وثمة من يشتريه في عالمنا اليوم. ولا غرابة إذا رأينا من يبحث عنه أيضاً!
والجدار الأبيض في نهاية الفيلم، لم يكُ من أسمنت أو حديد، يمكن للتقنيات في السينما اليوم تمرير البشر أولئك من خلاله، حديداً كان أو أسمنتاً. جدار أبيض لم ينفذ منه إلا الذين كانوا في اللب من حركة تلك الحياة، عملاً، وتفاعلاً، وإنجازاً. يبقى نفاذ المتسوّل من ذلك الحائط الأبيض، هو ما أربك المعالجة ونسقها. لا جهد في التسوّل، وخصوصاً أن الشخصية التي تم تقديمها بداية الفيلم لم تبلغ من العمر عتياً، ولم تُقدّم باعتبارها عاجزة بشكل جزئي بحيث لا خيار لها. قدمت لنا سويّة. كيف نفذت إلى الجدار، جنباً إلى جنب مع الذين يصنعون الحركة والإنجاز والفعل؟ تلك واحدة من المثالب.
الفيلم يقدّم الكتاب في هيئة ما قِيل... ما أنجز... وتقرير: «هذا وبسْ». كأنه الماضي. لم يكن منشغلاً بالمستقبل، على رغم أن الكتاب واحد من المداخل إلى المستقبل.
والنفاذ إلى الجدار، هو نفاذ إلى المستقبل. تحقق للذين سعوا في الأرض، حركة وفطرة وعلاقات.
الفيلم فاز بالمركز الأول في مسابقة «الأمل الموعود» للأفلام القصيرة التي نظمتها جمعية التوعية الإسلامية، مع ملاحظة أن الفيلم لم يحظَ بعدد مشاهدات ملفتة على موقع «يوتيوب»، ربما لطبيعة الموضوع المُعالج الذي لم يكن مباشراً في تناوله. لا يتناسب مع إيقاع الزمن السريع، وانشغالات الناس الذين يبحثون عن المباشر في تناول قضاياهم، وما يمسّ حياتهم، وما يرتبط بتلك الحياة. لكن ذلك لا يفقده قيمته وعمق طرحه.
العدد 4300 - الأحد 15 يونيو 2014م الموافق 17 شعبان 1435هـ
مرحبا
بالتوفيق يارب
ابداع
بارك الله فيكم شبابنا المبدعين
تحياتي لكم وفقكم الله لكل خير ونتمنى ان نرى جديدكم