حكايات المنامة وسوقها القديم قادتني منذ الصباح الباكر هذه المرة إلى الأزقة الضيقة المترامية على طول الشارع المؤدي إلى مأتم العجم الكبير في المنامة، وذلك بعد أن قررت المشي سيراً على قدميَّ من جهة كنيسة القلب المقدس «الكاثوليكية» التي شيدت في أربعينات القرن الماضي.
مآتم النساء
هناك رأيت في كل زقاق مباني تراثية قديمة، بعضها متهالك، والآخر تم ترميمه، تخرج وتدخل إليه أفواج من النساء مرتدية العباءات البحرينية عبر أبواب تقليدية صغيرة أو كبيرة. قيل لي إن معظم العوائل المنامية العريقة والأصيلة مازالت تحتفظ بها كمآتم للنساء (الحسينيات). وهي تدار على مدى أكثر من مئة عام من قبل هذه العوائل البحرينية من شيعة المنامة، وتفتح أبوابها على مدار العام في أوقات معينة هي المناسبات والفعاليات الدينية المختلفة لإحياء المنامة القديمة وتراثها.
دخول هذا العالم يثير فضول الكثيرين وتساؤلاتهم في وسط المنامة القديمة التي ازدانت هذه الأيام بأحلى الألوان بمناسبة احتفالات النصف من شعبان (الناصفة).
مآتم النساء في المنامة أكثر عدداً من مآتم الرجال، وهو تفوُّقٌ عددي، لكنها تتميز عن مآتم الرجال بجوانب عديدة، ولا سيما أن المأتم بالنسبة إلى مرتاديه من النساء يمثل حجر الزاوية في علاقتهن مع بعضهن بعضاً، وفي حياتهن الثقافية والدينية. إنه شكل تراثي وراق من «تمكين المرأة» للتأثير مباشرة في المجتمع.
«القيِّمة»
عند ممر ضيق يقع بين الخط الفاصل بين «فريق الحمام» و«فريق المخارقة»، فتحت باباً خشبيّاً ودخلت إلى واحد من أقدم المآتم النسائية في المنامة والذي تم تجديده على فترات، وهو مأتم «العابد»، توارثته الأجيال جيلاً بعد جيل وهو اليوم يواكب روح العصر، لكن بصورة لا تمحي هويته الدينية، على -حد قول- إحدى المشرفات على المأتم التي وصفت نفسها بـ «خادمة الحسين»، وهو وصف دارج للشخص الذي يعمل لوجه الخير المحب لأهل بيت الرسول (ص)... إذ قالت وهي ملقية التحية باللهجة الدارجة «شحوالش» بلهجة أهل المنامة، وأضافت «هذا المأتم هو واحد من أقدم الحسينيات في المنامة، وهو كان دائماً وظل مفتوحاً لجميع الناس من دون استثناء ولجميع الأطياف وهناك أكثر من خمسين فعالية دينية من ميلاد ووفاة لها علاقة بتقويم أهل البيت، تقام طوال العام، وهي أنشطة كثيرة تحتاج إلى تفرغ كامل وجهد كبير، والدعم يأتي من الأفراد أو القائمين على المأتم أو من عامة الناس».
وذكرت، وهي تتسلم أحد النذور من سيدات دخلن المأتم، قدمت لها بعض الأطعمة والعصائر والشاي والقهوة، قائلة: «هناك حوالي ثماني سيدات يعملن مع «القيِّمة» وهو اسم المسئولة الدارج بالعامية، أي المسئولة عن الاحتياجات اللوجستية في المأتم، إذ يجب ترتيب كل فعالية قبلها بأسبوع إلى أسبوعين سواء كانت «ميلادا» أو «وفاة» ... أضف إلى ذلك توزيع «النذور» وهي عبارة عن أكياس تضم في جعبتها مواد غذائية وحلوى ومبلغاً من المال توزع على كل من يرتاد المأتم بعد الانتهاء من الفعالية، وهذه تختلف من مأتم إلى آخر كل بحسب امكانياته».
ذهبت إلى «القيِّمة» علوية علوي، المسئولة عن مأتم «العابد» منذ سبعة وعشرين عاماً، سألتها كيف تديره وهناك جدول حافل بالمناسبات والفعاليات الكثيرة طوال العام، فأجابت: «يا ابنتي نحن الشيعة لا نمل العمل من أجل الإمام الحسين (ع)، هذا جزء من تراثنا وهويتنا، فوالدتي كانت تقوم بالعمل ذاته لمأتم «مدينة» وهو قريب من مأتم «العابد» (...)، المآتم كانت جميلة في القديم لكثرة النقوش على جدرانها ولبساطة الناس».
وأضافت «أقوم بتنظيف وترتيب كل شيء، من قبل برنامج تضعه المشرفة مع مساعديها. ومن يرتاد المأتم اليوم ليس بالضرورة من المنامة لكن قد يقدُمن من مناطق بعيدة ومختلفة في البحرين، وأيضا بالنسبة إلى النذور التي تجلب (...)، وفي هذا الوقت أكثر من يرتدن المأتم النساء الكبيرات في السن أو المتقاعدات، أما النساء العاملات أو الطالبات اللواتي يدرسن فيحضرن في الإجازات».
إحدى العاملات من النساء اللواتي التقيتهن مع القيِّمة، سيدة عاملة، لكنها اليوم قررت أن تأخذ إجازة من أجل احتفالات النصف من شعبان، سألتها: ما هو الفرق بين مآتم نساء في المنامة عن المآتم في القرى، فأجابت «البذخ المادي وتنوع الأطياف في المنامة، وأيضاً استقبال الجاليات المختلفة».
وأضافت، وهي تضع كتاب أهازيج الميلاد التراثية استعداداً للبدء باحتفال النصف من شعبان الذي ينطلق في التاسعة صباحاً ويستمر حتى أذان الظهر، وهو التوقيت الذي وضع لبرنامج مأتم «العابد»، معلقة «كل فعالية لها دلالة اجتماعية، وهي نمط من أنماط التعاون والترابط الاجتماعي بين الأسر داخل المنامة التي هي مركز تسامح لجميع الأديان والشيعة والسنة وكل من هو جزء من هذا النسيج البحريني نراهم معنا، وهذا ما يميز أطياف ومذاهب البحرين، ولهذا فان المأتم مفتوح للجميع. والنساء في مثل هذه المناسبات والفعاليات يرتدين ازياء ملونة في الميلاد مثل الجلابية التراثية وغيرها، وهذا دليل على الفرح، بينما في الوفاة والعزاء فإنهن يرتدين اللون الأسود، وهو دليل على الحزن، ونحن لا نمنع أحداً من الدخول والمشاركة، فهذا جزء من الثقافة الحسينية».
منع السيارات
في الأحياء القديمة
جلستُ بالقرب من أنيسة حسن (قارئة) التي حضرت إلى المأتم للمشاركة في الميلاد قادمة من جبلة حبشي، بعد أن تركت المنامة وانتقلت إلى هناك، تقول أنيسة: «الحنين إلى المنامة دائماً يبقى، ومنازلنا مازالت موجودة، ما يميز المنامة أن كل أسرة منامية عريقة لديها مأتم، ولهذه المآتم النسائية تاريخ طويل من النشاط النسائي، وهي مكان للالتقاء الاجتماعي مثلما هي مكان للالتقاء الروحاني، ولا تنسي أن المنامة هي الأساس في كل شيء، صحيح (...) الكل طلع بره ولكن الكل يرجع في المناسبات والفعاليات المختلفة، ولذلك من المفترض أن تكون هناك خطة من المسئولين لتوفير مجمعات لمواقف السيارات وأخرى غلق هذه الأحياء التي تحتوي على الحسينيات من دخول السيارات وجعلها فقط للمارة بينما يتم توفير أماكن سكن للعمالة الأجنبية في مواقع أخرى وهو بلا شك سيعدل من طبيعة وشكل المنامة وخاصة في مناسبات مثل الناصفة وفي عاشوراء، أما الآن فالسيارات تضايق الجميع».
وترى أنيسة في «مأتم العابد» أنه يعد واحداً من أجمل المأتم النسائية وأكثرها تنظيماً في المنامة، معلقة: «نحن هنا نأتي؛ لأن المأتم مكان روحاني وأيضا اجتماعي وتربوي وحيث نلتقي ونتواصل مع الجميع؛ لأن الماتم ناد ثقافي ديني اجتماعي تتواجد فيه جميع العقول والفئات الاجتماعية».
بعد ذلك دعيت إلى الجلوس والاستماع إلى أهازيج النساء اللواتي رددنها في احتفال النصف من شعبان فكان اللحن يتغير بطبيعة كل صوت قارئة تماماً مع تصفيق الأخريات في ظل توافد النساء بكثرة. في أثناء ذلك يتم توزيع الشاي والقهوة وشراب الزعفران البارد ثم توزع بعض الحلوى التقليدية والشكولاته، بعدها تقوم بعض النسوة برش العطور على عباءات النساء الواحدة تلو الأخرى، يأتي من بعدها البخور بقامته الكبيرة يسلم بيد لكل سيدة من أجل التبخر. وأخيرا يبدأن بتوزيع عطايا وهدايا النصف من شعبان التي تكون في العادة مواد غذائية مختلفة ونقوداً.
المآتم النسائية لها دور اجتماعي في توثيق علاقات أهل المنطقة ضمن إطار الود والاحترام المتبادل، ولقاء الجميع من مختلف الطوائف والجاليات من دون جبر في الحضور أو ازدراء – كما قالت إحدى المشرفات على المأتم « العابد» بعد أن شكرتها وودعتها. سرت على قدميَّ بعد ان ودعت نسوة هذا المأتم وبدأت أفكر في صورة التعايش بين مكونات المجتمع المتمثلة في مآتم النساء الذي هو واقعاً نموذج راقٍ لمكانة المرأة ودورها في إدارة موسسة اجتماعية لها دور كبير في تعزيز نسيج المجتمع، وهذه المؤسسة يقصدها كبار السن والشباب والصغار، ومن كل الطبقات؛ لأنه الملاذ والأُنس بين الناس والذي تحيطه بيئة تربوية تنقل الحضور من مناسبة المولد أو الوفاة الى واقعهم المعاش ضمن إطار ثقافي - اجتماعي متماسك عبر الأجيال. وهذه هي المنامة.
العدد 4299 - السبت 14 يونيو 2014م الموافق 16 شعبان 1435هـ
--
والله عبالي
تمكين النساء
اقول ليش مآتم النساء لديهم برامج منوعة اكثر، لأنه بسبب تمكينهن
الصور رائعه
موضوع رائع جدا، فهو يعكس اصالة وطيبة اهل البحرين وجمال ثقافتهم المخلية، والصور ابداع الصراحه هذا المأتم مكان جميل وهكذا يجب أن تكون مآتم اهل البيت دائما ، واشكركم لعكس ثقافة الفرح فنحن بحاجه لذلك
جميل جدا
المأتم جميل جدا و شكرا للصفية الاستاذة ريم
شكرا
شكرا استاذة ريم على هذا الموضوع اللي يبين اصالة اهل البحرين
شكراً للوسط ..
شكراً للوسط و شكراً للأستاذة ريم خليفة و شكراً للمصور و شكراً للبحرين و ربي يحفظكم ..
إنها باطن الذاكرة 3
..في هذا المجتمع الصغير بكل أطيافه وقيمه تبرز التراتيبيات الطبقية أيضا بأشكالها التي يطول ويطول الحديث عنها، ولا ننسى مقرأة المأتم رحمة الله عليها الحاجة بلقيس "أم عبدالأمير" تلك السيدة التي أولت المأتم محبتها وفيض اهتمامها بقوة شخصيتها وحضورها، إنها حقا باطن الذاكرة الذي لا يقهر في زمن التعب..لك الشكر مجددا ياريم د.منى عباس فضل
إنها باطن الذاكرة 2
...أيقظت الحكايات الدافئة وخبايا جلسات الكلك الذي تتحوطه نسوة الحي لإعداد النارجلية، وطعم "الشربت" بألوانه الزاهية، وفنجان القهوة المرة التي تعد يومياً في بيتنا المقابل للمأتم، وشاي الزعفزان والدارسين والليمون أيام الشتاء، وطقوس زفة القاسم، وقتل الحسين عليه السلام والسبايا ونعش العباس الذي تمدد في غرفة "أم سلمان"لأيام نخاف فيها الاقتراب إلى غرفتها، وتهزنا خوفاً زجرتها ويكسر قلبنا حنانها..أكمل د.منى عباس فضل
إنها باطن الذاكرة 1
شكرا عزيزتي، أيقظتي الذاكرة..فبين هذه الجدران العتيقة شهدت وترعرت أروع صداقات زمن المحبة والسلام، صداقة الحاجة "طيبة" المعروفة بأم سلمان قيمة المأتم، وجدتي الحاجة "أم عباس، فاطمة بنت زبر" صداقة عبرت عن كل قيم المحبة والإخلاص والتفاني والجيرة وربما عكست متناقضات الزمن وكيف يمكنها التعايش. أيقضت ذاكرة النذر السنوي الذي كان يؤديه الحاج عباس بن فضل في تركيب سواد المأتم إيفاء لنذر والداته وحباً في خدمة الحسين عليه السلام..أكمل..د.منى عباس فضل
كلمة أبكتني
( نحن الشيعة لا نمل من العمل من أجل الامام الحسين)
هذه الجملة أبكتني عند قراءة الموضوع
و ذلك لحبي و تقصيري في خدمة مولاي الحسين عليه السلام
هنيئا لخدّام الحسين
شكرا لكم
موضوع شيق وأكثر من رائع. شكرا أستاذة ريم وشكرا للمصور
اللهم صل على محمد وآل محمد
اللهم صل على محمد وآل محمد...ما شاءالله
تقرير رائع
شكرا لجميع الحسينيات على نشر فكر آل بيت النبي محمد صلى الله عليه وآله تنفيذا للآية (قل لا أسألكم عليه أحرا إلا المودة في القربى).ا
مافى أٍسلحه؟؟؟
مافى أسلحه ورشاشات مثل اللي جافوهم فى السلمانيه؟؟؟؟
هذه هي طيبة البحارنة منذ مئات السنين لم تتغير تمارس شعائرها وتستضيف كل الناس برحابة صدر
فليعرف .............أن البحارنة حينما خرجو للمطالبة بحقوقهم لم يعتدون على الآجانب ولم يقطعون لسان المؤذن انما خروجهم السلمي يهدف لتوزيع الحقوق على كافة البحرينيين سنة وشيعة من أجل حياة كريمة لاأكثر والتاريخ يشهد بذلك.