العدد 4298 - الجمعة 13 يونيو 2014م الموافق 15 شعبان 1435هـ

«شمالاً... إلى بيت يحنُّ إلى الجنوب»... تشظّي الذوات والجهات

في كل أعماله القصصية والروائية التي أنجزها أمين صالح، منذ «هنا الوردة... هنا نرقص»، العام 1973، «الفراشات»، 1977، وروايته الأولى «أغنية أ. ص. الأولى»، 1982، «الصيد الملكي»، 1982، «الطرائد»، 1983، «ندماء المرفأ، ندماء الريح»، 1987، «العناصر»، 1989، «ترنيمة للحجرة الكونية»، 1994، «رهائن الغيب»، 2004، «المنازل التي أبحرت»، 2006، وصولاً إلى «شمالاً، إلى بيت يحنُّ إلى الجنوب»، وهو يشتغل وفي فترة مبكّرة على «تفكيك علائق وروابط السرد»، أو ما أسماه علي حسن الفواز تفكيك المركزيات السردية، ارتباطاً بمصطلح «الميتا سرد»، وهي «تقنية أسلوبية تقوم على فكرة التداخل النصوصي» و «تتمثل فيها الكتابة عبر تحقيق شروط تربط المنظور السردي إلى زوايا متعدّدة»، «فالقاص أو الروائي أو السينمائي يعمد إلى كسر الإيهام السردي، والخطية التتابعية لتنامي الحكي أو الأحداث في البنية السردية، من خلال رؤيته للبنيات المتداخلة والمتوازية في النص الروائي أو القصصي».

وتُبرز في قراءة جلّ أعمال صالح، هيمنة المجازات، وقيادة السرد من قبل «الضمير». الشخصيات غائمة، وكثيراً ما تكون على تماس وتشابه مع الأشباح. كثير منها يأتي مكتنزاً بالانكسار، الإحباط، الكوابيس. لا شيء مرئياً. كلٌّ برسم الغيب والتكهّن والاحتمال، والمرض والوساوس، بما فيها من هذيان، واستقالة عن الدور، أو الاكتفاء بالتفرج! ماذا بعد؟ دعوة العالم إلى ما يشبه التحريض على العالم!

لا شيء في كل ذلك يدل على الشخوص. لا أحد في منتهى الدور يمكن أن تستدل عليه أو أن تجعله منعطفك البسيط حتى مع الأدنى من الانسجام لدى مخلوقات، شخصيات هذيانات، تقود إلى مزيد من القبض. لا بسط في ذلك إلا قليلاً!

«الضمير» هو/هي البطل الذي لا نجد ملمحاً من بطولته سوى استعراض في الحكمة والتذمّر والغثيان والنوم على أذى يطول. هو/هي البطل الحكيم المثالي، سابر أغوار أسرار العالم. العالم لا يملك شبراً من التصرّف فيه! هو/هي نفسه مركز الاستغفال والتآمر والاستهداف. سعَة في ذلك. البطولة في القدرة على الخلاص (نصاً)... حكمة تنهمر من السعة وسط عالم يؤسّس لمعنى أن تكون رهينة!

في التحايل أيضاً ببراعة تفكيك السرد وأطرافه. جعلهم في مهبّ المصادفة أو الريح، لا فرق. لن ينجو من مركز السرد ذاك الذي تنطق الأطراف بالتبعية لحكمته وقدرته، على أن يتماهى مع «شبحيته» المرصودة، انكساره أيضاً، إحباطه، وكوابيسه!

«(تركت) ما تحمله على راحتيها من نثار فجر غضّ، نبوءة نحو مكمنه الكوني، ومن بقايا طلّ رشّتْه بسخاء على بشر طاعنين في الغفلة، ومن مفاتيح تُحكم بها إغلاق شئون العائلة وأسرارها». نحتاً من عنوان «كم هو معْتمٌ هذا الضياء... كم هو مضيء هذا الظلام».

بالتوغّل في شعرية السرد، يوافيك، يفاجئك، ويُوقع بك في كثير من المواضع. هي ذاتها الشخصيات المحبطة، المسحوقة، المهمّشة التي تتصدّر بطولة المشهد في السرد الذي يذهب في محوه وتآكله. هي نفسها الشخصيات نفسها وإن بدا أنه شبه عابر في بناء لا يريد أن يعترف بهندسة رواية أو الاستقرار على هندسة نفس/ ذات لأي من الشخصيات التي هي مضطرة أن تكبر وتتمرد وتحتج من وراء حجاب، وتوغل في الحكمة في خراب الوقت!

«خرجت الخادمة ذات العنق الطويل والعينين الواسعتين، خرجت جميلة المحيّا والروح، من دار طحنت كرامتها برحى الغطرسة، وأنهكت جسدها عضلة عضلة، حتى صارت قرينة الوهن، رفيقة القنوط».

يتلاشى السرد في لعبة اختبار اللغة، وهي تتلاعب بمخلوقات النص واحداً تلو الآخر، ترتب جحيم الشخوص في جنة اللغة. كأن الأمر كذلك؛ بل هو!

«إلى هذا المرفأ المُطلّ على ملعب العواصف الخاملة؛ حيث المياه تقنص المياه، والرياح تمتحن شكيمة السفن».

فاتنة هي اللغة التي يكتب بها أمين صالح. موغلة حدّ العظم كموهبة شفرة. لكن، نريد أن نرى المخلوقات تلك في تجلّيها، لا باستعراض اللغة لها، مرة في سذاجة حضورها وهشاشة الأبواب التي تعبر من خلالها إلينا، ومرة بذلك التحوّل الذاهب إلى النقيض.

الأمكنة جهات أيضاً ملبّدة بالغرابة، أمكنة مكتظة بالجهات... جهات مكتظة بالأمكنة، البشر، الكائنات، الحالات، الجنون العابر والنسبي الذي يمكننا أن نقرأه، التوتر، القلق، لكلٍ جهاته ريثما يطلّ وصول. ولا وصول يبدو... هناك في سديمها... سديم اللغة التي صيغت بها يكمن المضيّ للمتاهات تلك فيما يشبه ملهاة تخلع جلدها مع دوران الوقت!

«غرف مائية تذرع فيها السراطين لتخلب ألباب العابرين مع زوارقهم المطاطية وهم على شفا النجاة».

«هل نحدّثك عن الغرقى الذين لا يعلمون أنهم غرقى؟».

وفي «ضمير الراوي» هي: بكل العذابات والانتظار وبكل تلك الحدّة التي تعلو وتهبط كأنها الأنفاس. في جهات التيه كأنها هي. في حالاته أيضاً، سمات للمخلوقات والكائنات والبشر الذين يحضرون هكذا متفرّدين بتلك العذابات، بذلك الإمعان القسري حيناً والاختياري حيناً آخر، في الذهاب إلى حيث يكونون وجهاً لوجه مع مصائرهم التي لا تعِد إلا بالمواجهات الفادحة، وما يبدو أنها يائسة، أو يائسة في كثير من الأحيان.

«زوجي في البدء، اعترض على فكرة أن أعمل كخادمة. انفعل وهاج. شتم الناس والحكومة. وبّخ السقف والجدران. رجم الجميع بصراخه. وعندما أردت أن أبرر أو أوضّح، نهرني وأمرني أن أخرس».

ويتكرر الضمير في التقاطات يحضر فيها السرد مرة بمباشرته النادرة. الغالب هو الإيغال في شعرية السرد حداً لا يعنيك فيه السرد سوى أن تواصل تلك اللغة قدرتها على الرسم وإيصال حتى الروائح إليك.

«أدمنت الوقوف عند باب موصد على أشال المحنة، فوّض نفسه للذود عن حساسيتي وذلك بصدّ غارات التطفل التي يشنها بين الحين والحين جيران يزعجهم جهلهم بما يحدث. باب لا يقدر أن ينحني لينفض عن كاهلي نثار الكآبة، ومثلي ينتظر ويترقب. واقفة أنصت، أصيخ، لعلي أسمع رنين لهاثه، هسيس أنفاسه، رفيف حضوره المضاء نازلاً أدراج الشفق ليحتويني بذراعيه معتذراً عن غيابه، وملء عينيه حنين جارف».

لم يعد القارئ اليوم منسجماً أو متصالحاً مع لغة ربما تمنحه ذلك القدر وتلك الجرعة من المتعة، ولكن زبدة تلك المتعة أن يكون في حال تماس وقدرة على أن يختبر ذاته من خلال تلك الذوات غير المحددة والقلقة والشبحية والهشة والمهشمة!

وعلى الذين انتهوا من قراءة الرواية بحثاً عن جهتين، الشمال والجنوب بصريحهما في الأمكنة والبشر، أن يعرفوا أن أمين صالح مرّر خديعته على الجميع. لا جهات بعينها. تتشظى الجهات مثلما تتشظى الذوات، مثلما تتشظى اللغة حاملة لنا نيازكها وإضاءاتها الغامرة للذوات التي التحمت مع العتمة وصارت جزءاً منها... من ملامحها!

العدد 4298 - الجمعة 13 يونيو 2014م الموافق 15 شعبان 1435هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً