تركيا «الأتاتوركية» وإيران «الخمينية» متباعدان في العنوان، وقريبان في المعنون. «علمانية» الأولى، و«إسلامية» الثانية، لم تكن حكماً على خلاف كلاسيكي، يجري عادة بين الإسلاميين والعلمانيين. فالأمر هنا لا تحضره مثل تلك التناقضات العاطفية والأيدلوجية، نظراً للعديد من العوامل، التي يتداخل فيها التاريخ وتصيغها الثقافة وينحتها منطق الدول، الذي لا يعرف إلاَّ المصالح والأرقام وكل ما هو مرئي لمساً وحساً.
بل وليس غريباً أن نتذكر بأن تركيا وهي في أوج «علمانيتاها الأتاتوركية» المتشددة، اعترفت صراحة بقيادة الإسلاميين الإيرانيين بعد إطاحتهم لحكم الشاه وإعلانهم الجمهورية الإسلامية في الحادي عشر من فبراير 1979. وقد فسَّرت حينها حكومة رئيس الوزراء التركي الأسبق بولنت أيسفيت هذا الموقف بـ «العلاقات الخاصة بين البلدين» الذي دفعت بلاده تالياً لأن تعارض عملية الأميركيين في طبس، وحظرهم الاقتصادي على إيران.
إن عدم زيارة رئيس إيراني إلى تركيا منذ ثمانية عشر عاماً لم تمنع أن يصل التبادل التجاري بين طهران وأنقرة إلى خمسة عشر مليار دولار اليوم؛ ولا أن تبيع تركيا النفط والغاز الإيرانيين إلى وسط أوروبا، وأن تتحول البنوك التركية، إلى رئة يتنفس منها الاقتصاد الإيراني اللاهث، ولا أن يُوقّع الجانبان عشر اتفاقيات مهمة، خلال زيارة الرئيس الإيراني حسن روحاني لأنقرة هذا الأسبوع، ما يعني أن مُنتَظَماً من التنسيق كان قائماً بين البلدين.
أن يتحدث ثلاثون في المئة من الشعب الإيراني اللغة التركية، وعلى رأسهم المرشد الأعلى للثورة الإسلامية آية الله علي خامنئي ليس أمراً عادياً. وأن يكون 26.3 في المئة من الأتراك شيعة وعلويين فهذا ليس أمراً عادياً. كما أن الروابط الثقافية القائمة بين البلدين، تجعل الامتداد بينهما لا حدَّ له منذ أن وُلِدَ الفقيه الصوفي محمد بن محمد بن حسين بهاء الدين البلخي (جلال الدين الرومي) في خراسان، ثم عاش بقية حياته في تركيا خلال حكم السلاجقة حتى وفاته قبل 741 عاماً.
الروابط القومية «التركية» في إيران تبدأ في آذربيجان (الشرقية والغربية) وتنتهي إلى حيث مراجل الدين في مدينة قم، الذين جاءوا من أردبيل وتبريز وزنجان وقزوين، وفي النخبة السياسية الإيرانية الحاكمة. والروابط الدينية «الإيرانية» في تركيا تبدأ منذ عهود الحمدانيين والفاطميين والمرداسيين، ولا تنتهي إلى حيث الآن في أنقرة واسطنبول وقارص وايفْدِر وآغرى وإزمير وغيرها من المحافظات والمدن التركية حيث التواجد الشيعي والعلوي.
وربما لاحظ الجميع، أن الاتفاقيات التي وقّعها الرئيس الإيراني في أنقرة لم تقتصر على «الاتصالات والبريد والجمارك والمواصفات القياسية والاستثمارات في البنى التحتية والغاز»، بل كانت هناك اتفاقيات ثقافية في مجال إنتاج «الأفلام السينمائية المشتركة وبرامج التبادل العلمي والتعليمي والثقافي والشباب والرياضة والسياحة والتراث الثقافي». وهو ما يُوضِّح عن مدى المشتركات الثقافية والدينية القائمة بينهما.
وربما زاد من ذلك العمق في الروابط والمصالح المتبادلة، وقوع الجانبين على خط جغرافي متشابك ومعقد حيث العراق وأرمينيا وآذربيجان، وهو ما ضاعف من أعباء «القرابة القَدَرِيَّة» بين البلدين. فجميع الأزمات التي مرَّت على هذه البلدان، كان للجانبين مصالح متفقة أو متعارضة فيها، فضلاً عن حدود أخرى ذات مسار واحد كسورية وتركمانستان.
بالتأكيد، لم يفرض ذلك التداخل تماهياً في المواقف عند أنقرة وطهران حيال العديد من الملفات، لكنه لم يصل حتماً إلى حدَّ الخصومة. فمثلما قال رئيس لجنة العلاقات الخارجية والأمن القومي في البرلمان الإيراني علاء الدين بروجردي قبل أيام «أن العلاقات جانب من القضية، والسياسات جانب آخر». هذا الأمر ظهر جلياً في مواقف البلدين في العراق وسورية، اللذين يختلفان فيهما.
الخلاف التركي العراقي يقود الأتراك آلياً لأن يختلفوا مع الإيرانيين. والخلاف الإيراني الآذربيجاني يقود الإيرانيين آلياً لأن يختلفوا مع الأتراك. والخلاف التركي السوري يقود الأتراك آلياً لأن يختلفوا مع الإيرانيين. هذا الأمر جعل الجانبين يبحثان عن أوراق «وخز» ضد بعضيهما. وربما كان إقليم ناغورني كره باغ المتنازع عليه والقضية الكردية بعضاً منها.
الثابت في العلاقات الإيرانية التركية هو أن الصِّدام والقطيعة مرفوضة، لأن ذلك سيعني قطعاً لتداخل تاريخي ومصالح متجذرة. في أتون الحصار الغربي على إيران، كان النظام المالي التركي يقوم بنجدة النظام المالي الإيراني، ويقدّم له طرق عبور بنكية آمنة، باتجاه المصارف، ودفع مستحقات بيع وشراء إيرانية متبادلة في أوروبا وآسيا وأفريقيا.
وفي أحلك فترات الصراع في سورية (الحليف الاستراتيجي لإيران)، حيث كانت أنقرة تدعم الجيش السوري الحر بالسلاح والمال، كان النفط والغاز الإيرانيان يُضخَّان بشكل منتظم إلى تركيا لتشغيل مصانع السيارات والكيماويات والبلاستيك والمعادن هناك، وإنقاذ 413.724 كم من الطرق البرية التركية. هذه كانت ولازالت الصورة القائمة بين البلدين.
اليوم لتركيا وإيران أربع ملفات مباشرة يمكن أن تكون اختباراً لهما في طريقة تسويتها وفقاً للمصالح المشتركة للبلدين: الملف العراقي والملف السوري والملف المصري (ومعه التونسي والليبي أيضاً) فضلاً عن الموقف من التحولات التي أفرزتها الأزمة الأوكرانية على الأمن الاقتصادي والسياسي على أوروبا نزولاً إلى حيث منطقة آسيا الوسطى.
هذه الملفات لا تشغل المنطقة فحسب، بل هي تشغل العالم بأسره. لذا فإن الإيرانيين والأتراك، يعتقدون بأنهم متباينون فيها لكنهم متفقون على أنهم ومن خلالها يستطيعون إيجاد مصالح جديدة لهما من على تلك الفوَّهة الموجَّهة للعالم، بالضبط كما هي المدرسة الأميركية في الأزمات. ويمكن تناول جزء من ذلك في مقالات قادمة.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 4296 - الأربعاء 11 يونيو 2014م الموافق 13 شعبان 1435هـ
هكذا السياسه ولا بلاش
نتمنى ان تعم السلام وننعم بمثل هكذا السياسات ايضا لدولنا الاسلاميه
نصيحة للاخوان المسلمين كي يتعلموا السياسة
العلاقات التركية مع ايران تصلح لان يستفيد منها الاخوان المسلمين الذي عادوا إيران ارضاء لدول قامت بالانقلاب عليهم وتدمير حكمهم
رد على زائر 2
الاخوان المسلمين كانوا على علاقة جيدة بايران بل كان خططهم هو عودة العلاقات معها
تحية صباحية لك
استعراض جميل ومفيد دائما اخ محمد