عندما بعث الله نبينا محمداً (ص) في مطلع القرن السابع الميلادي كانت أوروبا تمر في مراحلها الأولى من العصور المظلمة التي حرمت الكلمة والفكر والتنوير. وكان ذلك الحرمان مسيطراً على أجزاء كبيرة من العالم لاسيما الجزيرة العربية الغارقة في الجهل والظلام. غير أن المسلمين سرعان ما استطاعوا نشر حضارتهم – وفي فترة وجيزة جداً – إلى أجزاء كبيرة من عالم الأمس. كان هناك من النصارى وغيرهم ممن اطلع على افكار وعلوم الآخرين وكانوا مطاردين في بلدانهم ووجدوا حينها ترحيباً بالعلوم الفلسفية والطبيعية من قبل المسلمين الذين سرعان ما استوعبوا آخر ما أنتجته الحضارات الإنسانية آنذاك وسرعان ما استطاعوا تطوير تلك العلوم.
غير أن الحضارة – أي حضارة – بحاجة لعدة مقومات لكي تستطيع البقاء والاستمرار في تطورها. فالعلوم (الطبيعية والاجتماعية) لا تستطيع لوحدها أن تصنع حضارة، وإنما هي بحاجة لإطار اجتماعي منظم قانونياً. فالقانون هو الذي يمكن الإنسان من توفير جهوده وعدم تبذيرها لتسيير الشؤون الروتينية في الحياة. في ظل القانون العادل يتمكن الإنسان أن يوجه جهوده للتطوير الحضاري المستمر. والقانون أساساً يفترض وجود هيكلية اجتماعية/ تنظيمية لتسيير شؤون الناس. وكلما تطور المستوى العلمي، تطور القانون وتطورت معهما التركيبة التنظيمية للمجتمع. غير أن العلوم والقانون والهيكلية الاجتماعية ليست كافية لضمان التطور الحضاري. بالإضافة لكل ذلك فإن الاجتماع الإنساني بحاجة لعامل "السياسة" للتدخل هنا وهناك لتوجيه المسيرة الحضارية. ويقع في قلب العامل السياسي كيفية إدارة الخلاف ضمن الجماعة الإنسانية. فلو حصل مجتمع ما على أفضل العلوم وأفضل القوانين وأفضل الأنظمة ولكنه افتقد إلى كيفية إدارة الخلاف الطبيعي الذي ينتج ضمن أي جماعة إنسانية، فإن كل تلك الإنجازات تنتهي وتسقط تلك الحضارة التي كانت في صعود.
لقد أشار عدد من مفكري الإسلام إلى أن ما يعاني منه المسلمون اليوم هو افتقادهم لفن إدارة الخلاف، وبالتالي تدميرهم لإنجازاتهم التي حققوها في الماضي. ولو نظرنا إلى التاريخ القديم والحديث، نجد أن الإسلاميين مازالوا أسرى لكثير من الأنظمة والأعراف والمفاهيم التراثية التي تحرمهم من التوجه لاستحصال العامل الأهم في كل حضارة وهو كيفية حل الخلافات دون تدمير الأطراف لبعضها الآخر.
ينتشر بين المسلمين بعض الأحاديث والأقوال التي يتعامل معها كمقدس لا يمكن تخطيه. فالحديث الذي يكرره البعض عن اختلاف الأمة سبعين فرقة واحدة منها فقط على صواب، هذا القول ينسف أي محاولة لإدخال علم وفن "إدارة الخلاف" في أوساط المسلمين. وعندما نفتقد هذا الفن فإن بعضنا يلجأ لإساءة استخدام القانون والشريعة والتركيبة الهيكلية الدينية للقضاء على الأطراف المخالفة تحت عنوان "الدفاع عن الدين".
إن إدارة الخلاف لا تعني ترقيع وجهات النظر ومحاولة تقريبها ظاهرياً، كما أنها لا تعني دمج جميع الأطراف في طرف واحد وحزب واحد. فإدارة الخلاف أصبحت علماً بالإضافة لكونها فناً تمارسه الدول المتقدمة من خلال عمليات اجتماعية شتى، بضمنها الحياة البرلمانية، وحرية الصحافة والرأي وحيادية المؤسسة القضائية من الضغوط السياسية. ومشروع إسلام 21 يهمه تطوير الوسائل التي تمكن الإسلاميين إدارة شؤونهم وخلافاتهم دون الحاجة لتدمير بعضهم الآخر. ونقطة البدء هي في الاستماع لوجهات النظر المختلفة دون إخراجها من "الملة والدين" لأنها تختلف مع وجهة نظر أخرى نعتقد بها.
العدد 4295 - الثلثاء 10 يونيو 2014م الموافق 12 شعبان 1435هـ