إن أبرز المؤشرات الإيجابية للإعلام المحترم الذي يتقيد بأخلاقياته وأدبياته المهنية والوطنية والإنسانية في الظروف المعتادة وفي أحلك الأزمات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، تقديره لثقافات الحضارات والأديان، وحرصه على ترسيخ اللحمة الوطنية بين مختلف مكونات المجتمع وتركيزه على ثقافة المواطنة الحقيقية ومبدأ تكافؤ الفرص ونبذ التمييز بكل ألوانه القبيحة، وتقريب وجهات النظر بين مختلف الأطراف الاجتماعية. ويتحمل المسئولية كاملة في إبعاد البلاد والعباد عن دائرة التأزيم والتأجيج والتحريض الطائفي المقيت، إذا ما تقيد الإعلام الرسمي بأخلاقيات وأدبيات المهنة الإعلامية وقام بواجباته الوطنية، التي تفرض عليه أن يخاطب كل مكونات الوطن الطائفية والمذهبية والعرقية بلسان واحد، وعليه أن يقوم بهذه المهمة الوطنية قبل غيره.
وأما إذا ما عمل في برامجه الإعلامية على إقصاء وتهميش النسبة الكبرى من المواطنين بما فيها الكوادر العلمية والأدبية والفنية والتربوية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية والتطوعية، بسبب أنهم ينتمون إلى طائفة معينة أو مناطق معينة، والأدهى من ذلك أنه يقوم ببث روح الكراهية الطائفية والمذهبية البغيضة في أوساط المجتمع التي تسهم بصورة مباشرة في تفكيك أواصر المحبة والمودة والتآلف بين أبناء البلد الواحد، فإنه يصبح طامة كبرى على البلاد، ويكون السبب الأكبر في حدوث الفتن الطائفية والمذهبية والعرقية التي تذهب بأبناء الوطن إلى ساحات ومساحات ليست في مصلحة أحد.
والإعلام الذي لا يضع مصلحة الوطن في مقدمة أولوياته، ويتخذ نهجاً بعيداً جداً عن طموحات الوطن، ويعمل على إيجاد الحواجز النفسية والأجواء غير الحميمية بين أطياف المجتمع وفئاته، ليجعل الجار يتوجس من جاره، والصديق يتحسس من صديقه، والزميل في العمل يتخوّف من زميله، على رغم أنهم لم يجدوا من بعضهم البعض إلا كل خير طوال حياتهم الاجتماعية والإنسانية، وكان كل واحد منهم يرى الآخر أنه الأخ الحميم الذي كان يقف معه في الرخاء والشدة من دون مَنٍّ ولا أذى، ولكن البرامج التلفزيونية والإذاعية والمقالات والتقارير الصحافية المكثفة التي حاولت بكل الوسائل، فصم عرى المحبة بين الناس، ومن أجل تحقيق أهدافها السلبية قامت بصناعة أحداث وقصص وقضايا غير واقعية لإبعاد الناس عن واقعهم الحقيقي، ولنقلهم إلى واقع مغاير تماماً.
مع الأسف كان الإعلام الرسمي وشبه الرسمي في الأوقات العصيبة التي مرت بالبلاد في العام 2011 يعمل بكل إمكانياته البشرية والمالية على إشاعة ثقافة البغض والكراهية والحقد بين فئات المجتمع، وهو ما أكّدته اللجنة البحرينية المستقلة لتقصي الحقائق في تقريرها الذي أصدرته في 23 نوفمبر/ تشرين الثاني 2011، من خلال استهدافه عمق العلاقات بين مكونات الوطن الاجتماعية والإنسانية والوطنية التي جبلت عليها منذ وجودها على هذه الأرض الطيبة. ولا أحد من العقلاء يستطيع الادعاء أن تقسيم البلد طائفياً أو مذهبياً أو عرقياً أو قبلياً، وتأليب فئةٍ على أخرى، وإيجاد حالةٍ من التوتر النفسي والأمني بينها، وإيهام الناس بأنهم أعداء لبعضهم البعض، وتحذيرهم من أخطار وهمية لا وجود لها إلا في أذهان من نسجها، وببذل الجهود الكبيرة والمضنية، ويرصد الأموال الضخمة ويلجأ إلى أساليب غير أخلاقية، وقد يستعين في أحايين أخرى ببعض شهادات الزور المعد لها سلفاً، مستغلاً طيبة وعاطفة وثقة من استهدفهم بخطابه، ليوجد بالشحن الطائفي البغيض توجساً وخوفاً في أوساط المجتمع، ولإحداث خلخلة في الدعائم الإنسانية للمجتمع من أجل استغلاله وإضعافه.
لاشك ولاريب أن مثل هذه الممارسات الخاطئة والمتجنية قد أحدثت شروخاً نفسية واسعة في أوساط المجتمع، وأدت إلى الإضرار بالنسيج الاجتماعي، الذي نسجه الأجداد ورسخه الآباء في نفوس الأجيال. ولم يعتد الوطن على التراشق بين أبنائه بالقذف والبهتان واللمز والهمز، وكان التعايش بين مختلف فئاته في أرقى مراحله قبل الحملات الإعلامية الطائفية المركزة. وبالتأكيد سيحمّل هذا الجيل والأجيال القادمة، الإعلام الذي قام بهذا الدور السلبي مسئوليةً كبيرةً في تمزيق الثقة وانقطاع التواصل الاجتماعي بين أطيافه الوطنية، وكان من المفترض أن يقوم بدوره الوطني في الحفاظ على علاقاتها الوطنية والإنسانية والاجتماعية في الأزمات.
والسؤال الذي يطرح في المجالس والمنتديات الاجتماعية دائماً: لماذا يلجأ الإعلام إلى اتباع نهج طائفي وهو يعلم علماً يقينياً مدى خطورته على الوطن؟ هل كان يظن أنه بافتعاله الأزمات الوهمية قد ينهي أزمات أخرى حقيقية؟ مع الأسف لم تكن قراءته للمكونات الوطنية قراءة صحيحة، ولم يكن يظن أن أطيافاً واسعة من المجتمع لن تنساق إلى الزاوية الحرجة التي رسمها لهم.
بالتأكيد أن لا أحد يدعي الوعي في هذا الوطن الطيب تراه راضياً عن النهج الطائفي الذي اتبعه الإعلام الرسمي وشبه الرسمي طوال الأزمة السياسية، كان بوده أن ينفتح على كل أطياف المجتمع، ويكون خطابه لها متوازناً بعيداً عن التشنج المصطنع، وألا يذهب إلى الممارسات الإعلامية التحريضية ومحاكمة النيات.
وقد قال سماحة الداعية الكبير الشيخ محمد الغزالي رحمه الله تعالى عن الممارسات الخاطئة التي تمس مشاعر الإنسان أو معتقده السياسي أو الديني أو المذهبي أو الاجتماعي أو الثقافي أو الحضاري: «وإن أي كلام يفيد منه ذلك، لا يمكن أن يكون ديناً، إنه مرض نفسي أو فكري، والإسلام صحة نفسية وعقلية». ولا نملك إلا أن نقول لأنفسنا ولغيرنا إن الوطن أمانة في أعناق الجميع، فلا يحفظ من كل سوء إلا بتلاحم أطيافه وفئاته وطوائفه الكريمة وبناء الثقة بينها، وترك القيل والقال والهرج والمرج، الذي يفتت اللحمة الوطنية ويمزق العلاقات الاجتماعية والإنسانية بين المواطنين، والتوجه جميعاً إلى إحقاق الحق بين الناس وإنهاء الفساد بكل أنواعه الأخلاقي والإداري والمالي، وتنمية وتطوير البلاد في مختلف المجالات السياسية والاقتصادية والأمنية والخدمية والمعيشية والسكنية والإعلامية والاجتماعية، ليعيش المواطن عزيزاً كريماً آمناً على رزقه وحياته وتعليمه.
إقرأ أيضا لـ "سلمان سالم"العدد 4294 - الإثنين 09 يونيو 2014م الموافق 11 شعبان 1435هـ
الاعلام
مقال جداً رائع...الاعلام بانواعه المختلفة هو المسئول الاول والاخير عن تاجيج بؤر الطائفية البغيظة ف وطننا الحبيب.