ذكرنا في مرات سابقة بأننا لن نستعرض ما كتبته المؤلفة (Nelida Fuccaro)، باعتبار أنه تكرار لما نُشر هنا وهناك، ولكن انزعاج بعض الكتاب لما كتبته حول إبراز مدى ارتباط استقرار البحرين في القرن السابع عشر بالاستقرار السياسي والاقتصادي في الضفة الشرقية من الخليج، وما آلت إليه أوضاع البحرين إلى الانحطاط والتدهور طيلة عقود القرن الثامن عشر وحتى نهاية العقد السادس من القرن التاسع عشر؛ هو ما يوجب التوقف عنده هُنيهة.
فما قالته هذه المؤلفة ليس من بنات أفكارها حتى ينزعج بعض المتحولين منه، فكله عبارة عن حقائق موثقة ودامغة بالأرقام والتقارير التي كان يرفعها موظفو المقيمية السياسية البريطانية في الخليج من بوشهر، أو قواد سفن الأسطول البريطاني، أمثال (كيمبل، وبروس، وماكلود، وهينل، وستانيوس)، وغيرهم كثير؛ أو من قبل الوكلاء السياسيين البريطانيين في البحرين سواءً أكانوا هنوداً هندوسيين، أم مسلمين شيعة من الساحل الإيراني أم من البحرين؛ من خلال كتابتهم عن الأوضاع في البحرين والخليج. وللدلالة على ما قالته هذه المؤلفة، التي لم تأتِ به من رؤاها، يجب أن نقرأ بوضوح ما كتب بتوثيق دقيق جداً في المجلد الأول من (سجلات البحرين- الوثائق الأساسية- ط. 1993)، في الفصل الثالث عشر، تحت عنوان (Civil war in Bahrain, 184-1847)، ونرى بعدها بكل تجرد وعلمية بحتة، إن كان ما كتبته (Fuccaro) حول الحروب والصراعات بين القوى القبلية الداخلية والخارجية صحيح أم لا؟ وهل أن تلك الحروب قد عرضّت البحرين للتدهور الاقتصادي والسياسي معاً؛ حتى كان من نتائجها تعرض سكانها وعلمائها للهجرة والنزوح القسري، وإلى خراب القرى والبلدات في الريف البحريني.
ثم دعوة أخرى صادقة، لمن يهمه أمر المنامة وما يقال من تطور واستقرار حضاري، الذي حدث لها عام 1842 تحديداً؛ ليقرأ ما خلفته جحافل الطرف المنتصر في تلك الحروب على أرض وثروة المدينة، ثم يكتب عن أي استقرار يقصده، وعن أي تعاظم للحياة الحضرية على حساب الريف وازدهار التمدن في المنامة! فمن حفظ الريف في تلك السنوات العجاف والمرعبة هم أهله، ومن أضاع ودمر المنامة حتى نزح عنها معظم سكانها في شتات الخليج، هم من غير أهلها.
أضف إلى ذلك، عندما يأتي البعض ويتحدث بكل بساطة ويختصر تاريخ المنامة العريق في تطورها الحقيقي من خلال وجود بيت لشخص ما، أو فرضة (ميناء)، أو عمارة لتاجر معين، أو غيرها فقط، يصبح الهدف لا يخرج عن إطار التزلف إلى أقصى مداه، والقفز على الحقائق الثابتة على الأرض، ليكتشف القارئ الفطن بعدها، وسريعاً، بأن هذا ليس هو تاريخ المنامة.
بل أنه وسط التطور المزعوم للعاصمة بفضل وجود فلان وعلان، قد تفطر قلب أهلها لسبب وجود أحد الأحياء غير الأخلاقية، مع وجود مجتمع النُخبة وأسر الأعيان التي استقرت في المنامة منذ زمن بعيد، مما شكل وصمة عار لهذه العاصمة العريقة بتاريخها الثقافي ورجالاتها. ومن تابع تلك الإعلانات التي كانت تصدر عن مكتب المستشار (بلغريف) لتنظيم سوق عمل الساكنين في ذلك الحي الموبوء، لا يستطيع أن يتحدّث عن التطوير المزعوم. وأحد تلك الإعلانات كان بتاريخ الثامن من فبراير لعام 1937 ونبرئ عن ذكر حتى عنوانه لما يحمله من سوء سمعة للعاصمة، فهل تلك المنامة التي تتحدثون عن إرساء التحديث والتطور بها بين القرنين التاسع عشر والعشرين؟
كما يقف المرء واقعاً، وسط حيرة وعدم فهم وجهة النظر المتناقضة لأولئك الكتاب حين يتحدثون عن أن تعزيز النمط المضطرد للمنامة، بصفتها مركزاً سياسياًّ وإدارياًّ، هو الوجود البريطاني الاستعماري باعتباره عاملاً مساعداً على الاستقرار وذلك من خلال دعمه للشرعية. فكيف تكون القوى الاستعمارية الغربية داعمة للشرعية، واليوم تُتهم بأنها داعمة للمعارضة! أليست هي ذاتها نفس القوى وإن غيرت جلدها ولسان حالها؟ ولهذا سرعان ما يظهر التناقض الصارخ عند أحد هؤلاء حين يقول بأن تنامي النضال القومي العربي في المنامة تحديداً، وكان بمثابة ردة فعل لسياسات الإلحاق الرسمية للبحرين بالإمبراطورية البريطانية، تلك النضالات القومية التي بدأت مبكراً بعد الحرب العالمية الأولى، وقد عُد ذلك الموقف البريطاني بمثابة تحدٍ للحكم الذي يستمد شرعيته وقوته من انتمائه العربي. فكيف يكون الوجود البريطاني الاستعماري عاملاً مساعداً على الاستقرار من خلال دعمه الشرعية؛ وفي نفس الوقت يصبح بمثابة تحدٍ للحكم الذي يستمد شرعيته وقوته من انتمائه العربي! فلا حول ولا قوة إلا بالله!
وليس معنى وجود نخب تجارية في المنامة وتعاملها مع الوضع القائم لمن غلب في زمانها، بأن هناك نمواً واتساعاً في العلاقة بحرية وعفوية ودون فرض بقوانين وعقوبات بين حكومة المستشار، وليس غيرها، والنُخب التجارية، فتلك فرضية ينقصها الدليل المعاكس لما هو واقع تاريخي موثق، وليس تهيؤاً من لدن أحد.
ثم كيف يمكن الحديث عن التطور والمدنية والتحديث بعد القرن التاسع عشر وفي إحصاء العام 1941 لا نجد إلا 5,2 % من سكان البحرين قد وصلوا لمرحلة إجادة القراءة والكتابة. وكيف يتم المبالغة الصورية في الدفاع عن التطوير والتحديث في بحرين القرن العشرين، ونجد منتديات ثقافية تُغلق بسبب معوقات مالية أو رسمية لا تقف أمامها الحكومة إلا موقف المتفرج فقط. وأولها كان إغلاق نادي إقبال أوال العام 1913، والنادي الأدبي الإسلامي بالمنامة العام 1917، والمنتدى الإسلامي الذي لم يطل به العمر أكثر من ثمان سنوات، وعندما حاول بعض أعضائه إحياءه من جديد خشي مؤسسوه من عدم رضا «المستشار (بلغريف) عن ذلك بسبب قصيدة الشاعر العراقي محمد صالح بحر العلوم في ليلة تأبين سابقة»، أي أن النادي أُتهم بالتدخل في السياسة وكأنها أمر محرّم منذ القدم، ونادي الثقافة، وغيرها... والحديث ذو شجون.
إقرأ أيضا لـ "محمد حميد السلمان"العدد 4294 - الإثنين 09 يونيو 2014م الموافق 11 شعبان 1435هـ