إذا ما أريد للهوية أن تكون منتجة، فيجب التعامل معها من حيث كونها صيرورة ذات أبعاد متغيرة، وليست كينونة ذات ماهية ثابتة مغلقة… لأنها ذات بعد مركب ومتعدد، وليست ذات أحادي ثابت… لأن البعد الواحد، يقتل الهوية وينزع عنها أهم ما تحتاجه للتطور والبقاء وهو انفتاحها وقابليتها للتجدد والابتكار والتواصل الحي المنتج مع الآخر...
وعندما يكون الآخر (المرتبط أيضاً بهوية وتقاليد وأفكار وثقافة وأنماط سلوكية ذاتية) مكوناً أساسياً في الهوية الخاصة بالفرد والمجتمع والأمة، فعن أية ثوابت «هوياتية» خاصة بالذات الحضارية نتحدث؟! وخصوصاً أن تشكّل ومن ثم تطور هذه الهوية، لم يأتِ إلا عبر حدوث تمازج وتفاعل حتمي مع هذا الآخر، المماثل جزئياً أو المختلف كلياً، وخصوصاَ أنها تضم بين أجنحتها كثيراً من معارف وعادات وطقوس وتقاليد هذا الآخر... لاحظوا معي مثلاً أتباع وجمهور كثير من فرق وملل وقوميات ومذاهب وعقائد ممن ينتمون للدائرة الحضارية الإسلامية، يوجد فيما بين تلك الفرق والملل والمذاهب، الكثير من عناصر التشابه الروحي والفكري إلى حد التطابق أحياناً في ممارستها لبعض خصوصياتها الهوياتية كجماعة قومية أو دينية.. فعيد النيروز مثلاً الذي هو هوية طقوسية اجتماعية لدى الأكراد (على اختلاف انتماءاتهم العقدية الإسلامية)، هو ذاته قائم كهوية جماعية وطقوسية اجتماعية لدى أبناء القومية الفارسية (الذين هم بغالبيتهم ينتمون للمذهب الإسلامي الشيعي)، وهو الطقس ذاته موجود أيضاً لدى فرق دينية إسلامية أخرى، تحتفي به بأشكال وعادات وتقاليد أخرى متنوعة، وبخصوصيات دينية تتمظهر بصور متباينة في الشكل بين هذه الفرقة أو تلك.
طبعاً، الثوابت والمقدسات موجودة وكائنة لدى الجميع، وتشكل جوهراً وروحاً عميقة لدى كل الهويات، بالتالي لا يمكن إلغاؤها، وهي كهوية أو كجزء من الهوية المجتمعية، ليست مشكلة بذاتها، المشكلة هي في تصيُّرِها كينونة متصرّمة قارّة مغلقة، وكتلة صماء متراصة بمعايير صلبة مصمتة تتغذى من جوهر معرفي عقائدي لا إنساني مفارق منقطع غير متصل، بما يحولها إلى عقبة كأداء أمام أية نزعة تطوير أو رغبة للتجديد والتحول الواعي الحضاري الإنساني.
ولا شك أن مجتمعاتنا العربية والإسلامية تتميز عن غيرها باحتوائها على ثقافات وهويات متعددة ومتنوعة، وتضج بأشكال وأنماط متعددة من الهويات الثابتة، قومية ودينية واجتماعية وثقافية، لديها هي، فوائض هوياتية، إذا صح التعبير، ولكن للأسف لا تزال «مواطنية» أفرادها وأتباعها (أي ممارستهم للشأن السياسي والاجتماعي في بلادهم كحق قانوني لهم) ضعيفة ومنقوصة بل ربما غير موجودة أصلاً لدى العديد من تلك الدول والكيانات السياسية التي تزخر بتلك الهويات المتنوعة..هنا تكمن المشكلة الحقيقية على هذا الصعيد... إنها في تحول تلك الهويات العقائدية إلى هويات قاتلة عنيفة رافضة للآخر، وذلك كنتيجة طبيعية لقمعها وتسكينها بمخدرات الهوية الثابتة.
والملاحظ هنا أنه ومنذ بداية عصر النهضة سعى جمهور الفلاسفة الأوروبيين إلى تغيير هذه الصورة النمطية المعروفة والثابتة عن الهوية من خلال إعطائها معنى جديداً متغيراً ومختلفاً كلياً عن المفهوم الديني الثيوقراطي التقليدي المعشش في الأذهان والمجتمعات القديمة، والذي قدم لنا الهوية (كما جاء في المسيحية، وفي غيرها من الأديان) كمعطى أو كقيمة معيارية اصطفائية ثابتة خالدة غير قابلة للتحول.
لقد اعتبر هؤلاء الفلاسفة التنويريون أن الفرد - الإنسان يجب أن يكون هو قاعدة وجوهر أية هوية إنسانية، من حيث أنه كائن عقلاني يعي ذاته ووجوده، ولديه من الاستعدادات والقابليات الذاتية التي تجعله مؤهلاً وقادراً على بناء وجوده الخاص والعام، وتحديد غاياته وصناعة مصيره ومستقبله، وبالتالي بناء هويته الذاتية الداخلية الفردية، والموضوعية الخارجية الجماعية، مؤكداً استقلاليته تجاه سلطة الماضي، وقسر العادات والتقاليد.
لكن المشكلة التي واجهت أصحاب هذه النزعة الهوياتية الذاتية (ويقف الفيلسوف جون لوك على رأس هؤلاء) هي في جفاف و «يباس» و «ميكانيكيته» هذا المعنى للهوية المتحركة المبنية على تعاقدات اجتماعية وسياسية..إذ كيف يمكن إعطاء الهوية معنى روحياً حيوياً - مطلوباً بطبيعة الحال - لتحقيق الذات في أصالتها وخصوصيتها، في ظل هذا المعنى أو الطابع المادي العضوي للهوية، المرتكز على إلغاء كامل لمجمل الأبعاد الوجودية واللاهوتية والتمظهرات الثقافية التاريخية، بعد استبداله بهوية الحياة الفردية العادية الجافة ذات «الاقنوم» الواحد، القائمة على فاعلية الإنتاج وآلية التبادل فقط؟!
في الواقع لا يمكن إلغاء المعنى الروحي كجانب جوهري لأية هوية فردية أو جماعية على الإطلاق، لأنه يتصل بتاريخ الأمة والمجتمع والحضارة التي يعيش الفرد في كنفها، ويمارس حياته من خلالها.. ولا يمكن بالتالي، لأي إنسان أن يحقق عمق وهدفية وجوهر إنسانيته من دون إضفاء هذه الظلال الوارفة والمعاني الروحية الوافرة على هويته التاريخية والثقافية..أي من دون وجود محددات وأنماط وأنساق انتماء خصوصية تشكل معايير وأسس الهوية الفردية.
والهوية – بهذا المعنى - هويتان، هوية ذاتية تخص فكر وثقافة وانتماء الفرد إلى دائر ثقافية تاريخية خاصة، وهوية أخرى، هي هويته كمواطن أو ككائن سياسي يعيش في وطن ودولة يمارس فيها ومن خلال أنظمتها وقوانينها، حقوقه وواجباته ومسئولياته في العمل والإنتاج، وصنع المصير، في طبيعة الكيان، وشكل النظام السياسي المتصور.
ويفترض بهذه الهوية المرتكزة على قيم المواطنة السياسية المتجسدة في القانون العام الناظم لحركة الدولة والمجتمع، ألا تتناقض أو تتعارض – منذ بدء لحظة تشكلها الدستوري - مع هوية الفرد الذاتية الخاصة التي يمارس من خلالها انتماؤه لفضاء ثقافي تاريخي خاص به وبالمجتمع أو بالتكوين الثقافي والحضاري الذي ينتمي إليه، كأنساق وعادات وتقاليد وأعراف خاصة معبرة عن مصالح الجماعة، وتطلعاتها في البناء والتطور... وخاصة مع وجود نظام سياسي تعددي ديمقراطي يحفظ التنوع ويحافظ قانونياً على التعدد الثقافي والتاريخي لمختلف المكونات الموجودة لديه، والتي يسمح لها بالظهور العام، والتعبير عن خصوصيات أصحابها ومريديها ومعتنقيها في الحضور و»إثبات الذات»ضمن المجال العمومي بلا أية تعقيدات أو إكراهات بما يساعدها على التفتح الطبيعي في الهواء الطلق جنباً إلى جنب بقية الهويات الخاصة بهذه الجماعة الحضارية أو تلك.
إن تشكُّل هذه الهوية الذاتية الخاصة في زمن مضى وانقضى، وكانت له حساباته وظروفه ومكتسباته، لا يعني بالضرورة أن تكون تلك الهوية مصمتة ومغلقة على ذاتها وقيمها وأفكارها، أو عاجزة عن الانفتاح على أسئلة الحاضر وتحدي المستقبل... بل إن القيمة الحقيقية العملية لمعنى تلك الهويات تكمن هنا، في قراءاتها بوعي وعقلانية بحسب تطورات العصر، لتحقيق مزيد من التواصل والتعارف والبقاء، ومزيد من الإنتاج الرمزي والمادي، والفاعلية والحضور المؤثر في الواقع الخارجي.
بهذا المعنى يمكن القول بأن الهوية المنفتحة على الحياة والعصر، هي هوية الحضور والإنتاج الرمزي، بينما الهوية الثابتة هي هوية الانغلاق والانقطاع والموت الحضاري.
إقرأ أيضا لـ "منبر الحرية"العدد 4292 - السبت 07 يونيو 2014م الموافق 09 شعبان 1435هـ