صدر المرسوم الأميري بتعييني سفيراً فوق العادة مفوضاً بتاريخ 12 أكتوبر/ تشرين الأول من العام 1971، ثم أديت القسم المتعارف عليه أمام صاحب السمو الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة أمير البحرين، وصدر خطاب الاعتماد بتاريخ 14 أكتوبر/ تشرين الأول من العام ذاته من قبل صاحب السمو الأمير موجهاً إلى الرئيس المصري أنور السادات.
حزمت حقائبي ووطأت قدماي أرض الكنانة وترابها في مطار القاهرة يوم 14 سبتمبر/ أيلول من العام 1971، واخترت سكناً في فندق شيراتون القاهرة لقربه من محيط عملي، وتلقاني في الفرع القنصلي والثقافي لسفارة دولة الكويت الشقيقة بالدقي عبدالله الرومي بكل رحابة وسعة، وجلست في المكتب الذي خصص لي بجوار مكتبه فجمعتنا السياسة والدبلوماسية وحب الأوطان، كما جمعتنا هواية الأدب والشعر وحب الاستطلاع.
من أين نبدأ؟
تزاحمت الأوليات في ذهني، فرتبت أفكاري للولوج إليها جميعاً اختصاراً للوقت... ففي الأيام الأوائل أرسلت نسخة من أوراق الاعتماد - كما يقتضي العرف الدبلوماسي - إلى وزارة الخارجية المصرية انتظاراً لتحديد موعد لتقديم أوراق الاعتماد رسمياً إلى رئاسة الجمهورية، ثم بدأت أبحث عن دار للسكن وعن مقر للسفارة... فأما دار السكن فقد وقع الاختيار - بعد مشورة من سفير دولة الكويت ومحامي سفارتها محمود شوقي، وبعد عناء البحث وزيارة المواقع، على منزل جميل بناه لسكنه محافظ الجيزة على مساحة ألفي متر مربع في شارع جامعة الدول العربية ناصية شارع البطل عبدالعزيز في حي المهندسين، وأثناء التفاوض على الثمن، جاء إلي تاجر محترم مشهور من دولة خليجية شقيقة أعجبته هذه الدار وعرض عليّ فيها قيمة الشراء مضافاً إليها مبلغٌ محترمٌ من المال... فأجبته لو كانت الدار لي لتنازلت لك عنها بلا زيادة، ولكن هذا الملك هو لدولة البحرين فإن شاء فليكتب عرضاً بالشراء لوزارة الخارجية... لكنه لم يفعل، ثم اعتذر.
وكان لابد لي من التأكد من سلامة أوراق الملكية وتكفل بذلك المحامي... ثم سلامة البناء فكلفت للمهمة رئيس شركة المقاولين المشهورة (عثمان أحمد عثمان) الذي حضر بنفسه مع بعض المهندسين ووافق عليها بعد الفحص، أما دار السفارة فتم استئجار البناية رقم 13 - أ شارع السد العالي (فيني سابقاً)، وهي تقع بجوار سفارة جمهورية ألمانيا الغربية، وقد عرض علينا الورثة لهذه البناية فيما بعد شراءها بمبلغ 48 ألف جنيه، وأصرّت السفارة بعد مراجعة وزارة الخارجية على الثمن المعروض من قبلنا وهو 43 ألف جنيه...
بعد شراء المنزل واستئجار دار السفارة، هبط هاجس التشطيب والديكور والتأثيث والتجهيزات من الملاعق إلى الأثاث (الموبيليا) وما بينهما بهمّ ثقيل! فمعظم المؤسسات الموجودة لتلك الأغراض كانت من القطاع العام المعروف ببطء التسليم وتراكم الطلبات ابتداء من شركة موبيليا (بترومللي) إلى عمر أفندي وإضرابهما، وتعددت زياراتي لمعرض (بترومللي) أشهر صناع الأثاث الكلاسيكي (ستيل) وجحظت عيناي من قلة الإنارة في المعرض - توفيراً للنفقات ربما، وضقت ذرعاً من الانتظار الطويل سواء عند الاستفهام عن الأسعار أو مواعيد التسليم، وكل بائع يحيلني إلى آخر أكبر منه ويجري مكالمات هاتفية، وأنا أنتظر حتى يأتي الجواب بموعد تسليم لا يقل عن ستة شهور... وأحياناً لا يأتي جواب! فلجأت إلى القطاع الخاص مثل شركة حسين الأتربي رغم انشغاله بتأثيث القصور الرئاسية، وإلى شركات الإضاءة والثريات وإلى أفراد يتقنون صنع الديكورات وإلى السوق الحرة للدبلوماسيين وغيرهم، ثم أكملت الباقي من الأسواق العالمية بطلبات مباشرة.
مؤسسة الحلواجي... للتوصيلات
لم تكن التوصيلات الكهربائية في المنزل والسفارة مناسبة لتركيب أجهزة التكييف على غرار النظام البريطاني المعتمد في البحرين، فكلمت مؤسسة الحلواجي في المنامة، فأرسلوا إلي أحد المختصين بذلك وهو يوسف الحلواجي، ومعه المساعدون مع أدواتهم والحبال الكهربائية (كابلات) وأنهوا مهمة إعادة التوزيع، ثم وصلت إرسالية مكيفات الهواء من أميركا مباشرة إلى ميناء الإسكندرية، ووفرت لنا أماناً من الحر ورطوبة الجو.
وفي أثناء تلك المشاغل توفي في المستشفى أحد المرضى من البحرينيين، وانشغلنا في مهمة التجهيز وإنهاء المعاملات الصحية والدبلوماسية لنقل الجثمان إلى البحرين.
لم تكن الاعتمادات المالية للسفارة كافية لدفع أثمان المشتريات، والحصول على اعتمادات مالية كافية للسفارة كان يتطلب وقتاً ومراسلات من نوع خطابنا وخطابكم... إلخ، فدفعت أثمان المشتريات من حسابي ثم عدت إلى البحرين وقدمت الكشوف المالية بمستنداتها وقد بلغت نحو أربعين ألف جنيه، (وكان الجنيه المصري يساوي 850 فلساً تقريبًا) إلى الوزير قائلًا: «خذوا من القوائم ما يناسبكم واتركوا الباقي على حسابي أتصرف فيه عند انتهاء مهمتي... فابتسم الوزير وقال: «جميعها مما نحتاج إليه... لاسيما السجاد العجمي والثريات التشيكية والتحف»، ثم أمر مشكوراً بصرفها وهو يقول: «يكفي أنك دفعت عن الخارجية ولو بدون إذن منها».
شهر رمضان... كل سنة وأنت طيب
دخل علينا شهر رمضان المبارك في العشرين من أكتوبر/ تشرين الأول من العام 1971، وكنت أتناول وجبة الإفطار لوحدي في غرفة الفندق، وبعد مرور بضعة أيام مللت من تكرار نفس الطعام، وكنت كلما سألت مقدم الأكل عن نوع آخر من طعام أو فاكهة أو حلاوة كان يجيبني «كل سنة وأنت طيب» كأنه يقول غير موجود أو انتهى موسمه، لكنني سألت الصديق المحامي محمود شوقي فنصحني أن أكلم رئيس الطباخين وأطلب منه أصنافاً مثل قمر الدين والخشاف، والفول المهروس والحمام بالفريك والمجدرة وأنواع من الفواكه فهي من أطعمة شهر رمضان... فعلت، وأجابني رئيس الطباخين (الشيف) قائلًا: «تؤمر يا سعادة السفير... هي ليست في قائمة الطعام ولكن سوف نحضرها لك».
تذكرت هذه الحادثة بعد سنتين تقريباً في موقف أحرجني جداً لكنني خلصت منه إلى خير معرفة ووئام! وذلك أنني وزميلي في السفارة مصطفى كمال خرجنا من اجتماع اللجنة السياسية في الجامعة العربية مرهقي الأعصاب، واقترحت عليه أن نذهب مشياً على الأقدام إلى فندق شيراتون القاهرة لتناول الغداء، فهي رياضة تهدئ الأعصاب، ومسيرة نشارك فيها أبناء الشعب من مختلف الطبقات، وهي أيضاً متعة للوقوف مع الناس على جسرين يطلان على نهر النيل العظيم ومناظره الخلابة... فوافق على مرافقتي في السير وهي مسافة ليست بالقريبة، وفي أثناء الطريق رويت له حكاية الوزير علي فخرو حين كان وزيراً للصحة مع الوزير عبدالرحمن العوضي وزير الصحة في دولة الكويت آنئذٍ، فقد اقترح الوزير علي فخرو بعد خروجنا من مناقشات مجلس الصحة العربي في الجامعة العربية أن نذهب مشياً على الأقدام إلى فندق شيراتون القاهرة، وتقبل الوزير العوضي هذا الاقتراح ربما على مضض... وفي أثناء الطريق، وجّه العوضي إلى فخرو سؤالًا فيه إحراج واستغراب مفاده: «كيف يسمح الدكتور علي لنفسه أن يجلس في مقعد الدرجة السياحية في الطائرة وهو وزير؟»، وكان جواب فخرو حاضراً حيث قال ما معناه: «أنا إنسان من الشعب، ويا ليت وزراء حكوماتنا يوفرون على دولهم الأموال التي تنفق على تنقلاتهم الكثيرة لدرجة استئجار طائرات خاصة للكثير منهم».
سلمان بن عبدالعزيز
بعد هذا الحديث، بدا لي أن الزميل مصطفى نفسه اطمأن للسير قدماً نحو فندق الشيراتون... ووصلنا متعبين بعض الشيء وجلسنا في مكاننا المعتاد في شبه مقصورة في المطعم الأرضي وطلبنا الأكل، ثم جلس بقربي شخص لم تكن لي معرفة سابقة به لابساً قميصاً ومعه ابنه الصغير، وسمعته يقول للنادل ما معناه: «إننا مللنا من أكل نفس الطعام ونريد شيئاً جديداً أو طبقاً شعبياً»، والنادل يقول: «كل سنة وأنت طيب»، فتذكرت حادثتي السابقة وقلت لجليسي لقد مررت بنفس الموقف هذا من قبل، فاسمح لي أن أخاطب النادل بالطريقة التي جرّبتها، فقال تفضّل! قلت للنادل أذهب إلى رئيس الطباخين وقل له ان ضيفاً محترماً في الفندق يريد أن يأكل حمام بالفريك والفول المهروس والمجدرة وحلاوة الخشاف ...إلخ، ثم غاب برهة ورجع ومعه تلك الأطباق، فاستدار لي جليسي شاكراً، ومن باب المعرفة سألته عن اسمه فقال: «اسمي سلمان بن عبدالعزيز»، وحين سألته عن عمله أجاب: أمير الرياض، ولم أنتبه إلى مصطفى كمال وهو يوخزني في جنبي للتنبيه، ولا تسأل عن مقدار حرجي في هذا الموقف لولا أن زميلي مصطفى استنقذني بقوله: «يا صاحب السمو هذا هو سعادة سفير البحرين».
ثم أخجلني سموه حين وقف وأخذني بالأحضان وجرى بيننا الحديث كما يجري بين الأصدقاء والمحبين... دعوته فاعتذر لكونه على سفر، وشدد عليّ أن أزوره في الرياض.. ثم افترقنا.
هذه الحادثة فيها دلالة على ما يتمتع به أمراء آل سعود من دماثة الخلق، والتواضع والتبسط في الحديث مع الآخرين.
ولي حادثة أخرى مشابهة بعد ذلك في أواخر العام 1974 عندما ذهبت إلى محل الحلاقة في فندق هيلتون النيل ووجدت الحلاق منهمكاً مع شخص يبدو من تصرف القائم بالحلاقة معه أنه ذو مقام كبير. وأخذت مقعدي في ركن الانتظار، فلما شعر الحلاق بوجودي خاطبني قائلًا: «عفواً سعادة السفير... وهمس الضيف في أذن الحلاق فلما أجابه سرًّا، إذا به يقوم من مقعده ويبادرني بالسلام قائلًا: «أنا عبدالمحسن آل سعود أمير مكة وعانقني وحيّاني أطيب تحية فرجوته أن يعود إلى مكانه فلما أكمل الحلاق، جلسنا مع بعضنا ودارت بيننا الأحاديث ودعوته إلى حفل استقبال في منزلي فاعتذر لقرب سفره قائلًا: «عندي جناح دائم في هذا الفندق وسأحرص على ملاقاتك في كل سفرة إلى القاهرة»، فلما أخبرته بأنني على وشك انتهاء مهمتي أكد لي ضرورة أن أزوره في المملكة العربية السعودية... فشكرته كثيراً على لطفه وأخلاقه العالية.
أول عيد وطني
بعد هذا الاستطراد، والشيء بالشيء يذكر، أعود إلى زمن أول وصولي سفيراً إلى القاهرة ودخول شهر رمضان... في يوم من أيام الشهر الفضيل، وأنا في الفندق... جاءني هاتف ومن ورائه السيدة حرم المرحوم أحمد آل صفر وهي والدة الدكتورة سهيلة آل صفر تدرس طب الأسنان... حيّتني تلك الأم العطوفة وباركت لي بشهر الصيام قائلةً: «أنا صديقة لوالدتك وعلمت أنك تفطر في الفندق وأحب أن أدعوك لتناول وجبة الإفطار معنا»، ورافقتني الدكتورة سهيلة إلى منزل والدتها وخلتُ أنني في منزل عائلتي في البحرين.
وتذكرت بهذه المناسبة ضرورة الإعداد للاحتفال بالعيد الوطني الأول للبحرين على أجمل وجه، وذكرت للدكتورة سهيلة حاجتي لتطوع طالبات البحرين للمشاركة بالأزياء البحرينية التقليدية وما يتبعها من حليّ... فوعدتني بذلك، كما وعدتني أيضاً الدكتورة أمل الزياني (وهي أول دبلوماسية بحرينية تخصصاً وممارسةً وتأليفاً على ما أعتقد) وكل منهما وفَّى بوعده على أكمل وجه.
العدد 4292 - السبت 07 يونيو 2014م الموافق 09 شعبان 1435هـ
مذكراتك الجميلة
أما انا يا سعادة السفير فأطلب منك كتابة مذكراتك لكي يقرأها البحرينيون الجدد الذين عاثوا فساداً في تركيبتنا الاجتماعية لكي يتعلموا مالم يعرفوه من طيبة أبناء هذا البلدوالترابط العضوي. ولكي يفهم عتاوية حديثي النعمة والانتهازيين انه في يوم ما كان ابناء البلد اشقاء وغاروا عليهم وافقدوهم انسانيتهم.
سعادة السفير الاديب الفاضل
لقد ابدعت ياسعادة السفير في نقل وقائع الحياة في ذلك الزمن الجميل ، اتمنى أن تنقل وعلى حلقات ذكرياتك الجميلة ليستمتع فيها ويتعلم منها الجيل الجديد
ذلك في الزمن الجميل
اختيارك كان مبني على الكفاءة في تلك الفترة لو يرجع الزمان بمن يدير القرار حاليا لرفض ترشيحك وتبقى ياولد البحارنة اسما على مسمى