العدد 4291 - الجمعة 06 يونيو 2014م الموافق 08 شعبان 1435هـ

«المحيط الأسْود» لأدونيس: إعادة تفكيك المفاهيم... الصدْمة في الانتظار

في طبعته الثانية للعام 2014، يخرج كتاب «المحيط الأسْود» لأدونيس عن دار «الساقي»، في طبعة مزيدة ومنقّحة. بعض ما ورد في الكتاب أوراق وبحوث تقدّم وشارك بها في مؤتمرات عربية ودولية عمل على تطويرها وتركيزها. جاء الكتاب في 589 صفحة، ويبحث في مساحة كبيرة منه في إعادة تفكيك المفاهيم والخطاب السائد اليوم ضمن رؤى «دينية» تستند في جلّ أطروحاتها على النقل لا العقل.

في الكتاب تناولات للدِّين والسياسة وأدائهما اليوم، بلغة لا تخلو مما يشبه الاستفزاز، وخصوصاً فيما يتعلق بالدّين؛ على رغم أنه يُعيد التأكيد في جانب من تلك المقالات، تأصيل ما تم النظر إليه، وفي جانب آخر يعمل على تفريغ بعض تلك المفاهيم من قيمتها المتوهَّمة والمُتخيّلة بالنظر إلى طبيعة الواقع وحقيقة تردّيه.

بدءاً من «تديُّن السياسة، دُنيوية اللاهوت»، وعبر افتتاح، يبحث في «التمايز بين كلام البشر وكلام الله، في قلب اللغة الواحدة»، في محصّلة لا تحتاج إلى استقراء طويل، تشير إلى «تمايز بين البشري والإلهي. أي إلى تمايز بين شئون البشر و(معنى) الوحي الإلهي». وبعبارة أوضح «المسافة بين الزمني والروحي».

في فك الاشتباك وعياً وإقراراً بذلك، يحدث الإشكال في وعي يقبل التأويل في جانب، ويحرّض عليه في جانب آخر. إذا جاء التأويل من «علماء الدِّين» فقد تم الفصل في المسألة وتم اعتماد ما يذهبون إليه، بغضّ النظر عن الحجيّة هنا. لا تأويل يطرحه أدونيس فيما يشبه المسلّمة تلك. هو يبحث عن مقاربة لها على مستوى الوعي والممارسة. إذا تم الوعي بها، سينعكس ذلك على الممارسة. ممارسة الفرد من جهة، والمجموعات والمؤسسات التي تدير ذلك الوعي وتتحكّم فيه أحياناً، في صورة من الصور، من جهة أخرى.

في واحدة من استنتاجاته يذهب أدونيس إلى «القول، إن هذه المسافة ليست من أصل غربي، كما يقال، وإنما هي بالأحرى من أصل إسلامي- وهي آتية في أساسها من الفصل بين الدّين والشعر، أصل الثقافة العربية- أي بين الدّين و(العقل)».

تحضر السلطة هنا حين يتعلق الأمر بقراءة النصوص الدينية، كما يرى: «إن قراءة النصوص الدينية في منحى التديين الكامل لشئون الدنيا والعمل على المطابقة التامة بين النص-النظر، والممارسة-العمل، تخفي عند بعضهم، فيما وراء الصراع على السلْطة، رغبة في جعل المجتمع على الأرض انعكاساً لكمال العالم الديني السماوي». ماذا سيحدث بعدها؟ «لكن هذه الرغبة تكشف بدورها، عن أن المسافة بين النص والعمل، تظل قائمة قيام المسافة بين الأرض وما وراءها». بحث لا يتردد أدونيس في تقرير «الاستحالة» في ذلك التطابق بين «النص والعمل».

في الفصل نفسه، يتحرّى السمات الأساسية «التي تتسم بها قراءة النص الديني» السائدة، أطلق عليها «اللاهوتية»، مذكّراً بأن المفكر الراحل هشام شرابي يفضّل استخدام لفظة: «البطريركية» بدلاً من «الأبوية».

ضمن تلك القراءة يرى أدونيس أنها من هذه الزاوية تحديداً «تقوم على الحنين الشامل إلى وحدة أصلية: وحدة دين، وحدة أمة، وحدة وطن، وحدة سلطة»، كل ذلك ضمن واقع متفكك، كما أوردنا في مقدمة هذه المراجعة. يقول بالنص: «الواقع الذي تتم فيه هذه القراءة، وتتحرك، واقع متفكك ومتعدد: فهو أوطان، وشعوب، والوطن (الجزء) هو بدوره دول متعدّدة، والشعب (الجزء) هو كذلك (طوائف)».

في الفصل نفسه، مبحث يتناول الهوية، وهو على ارتباط وثيق مع مبحث «الدِّين والعقل» و»الزمني والروحي». كيف؟

«الهوية ليست في ما يثبت بل في ما يتغيّر. أو يمكن القول، بتعبير آخر، الهوية معنى لا صورة له-أو هي، بشكل أدق، معنى في صورة متحركة دائماً. فالهوية (لا تتطابق مع أي تجربة محسوسة)، كما يعبّر ليفي شتراوس. إنها تتجلى في (الاتجاه نحو)، لا في (العودة إلى)، إنها في التفتّح، لا في التقوقع، في التفاعل لا في العزلة، في الإبداع لا الاجترار».

في محاولة التطابق بين الروحي والزمني واستحالتها، يمكن كشف تلك المفارقة التي يمكن رؤيتها من دون الحاجة إلى مِقراب أو مجهر. المفارقة في واقع يقدّم نفسه باعتباره متناقضاً ويعلم أنه كذلك، ويصرّ على الذهاب في مطابقته بين «الزمني والروحي»!

في بحثه للغة «الحيّة»، «الميّتة»، لا ينأى أدونيس عن الموضوع نفسه. ثمة اتصال، (بنية معرفية هيمنت). يقول: «المسألة التي يجب جلاؤها هنا ليست في اللغة ذاتها، وإنما هي في بنية معرفية هيمنت، لعوامل كثيرة اقتصادية- اجتماعية- سياسية، على طرق إنتاج المعرفة عند العرب، ووجهت طرائق بحثهم. تتمثل هذه البنية، أساسياً، في العلاقة بين النص الديني وإعادة إنتاجه معرفياً بالإيمان».

بمعنى «إنها بنية العلاقات بين الدين- نصاً، والإنسان متديناً. وهذه، كما نعرف علاقة قبول، أي أنها، وفقاً للمصطلح العربي القديم، علاقة نقل. النص، في المنظور النقلي، يقين كامل ونهائي، والمعرفة هي اكتشاف ما ينطوي عليه، وتفسيره».

في استطراد تحل فيه الشواهد، يُبرز أدونيس حقيقة وطبيعة اللغة اليوم، ضمن واقع مفتوح على التردّي والتراجع والتبعية والانشداد إلى النقل لا العقل: «يمكن القول، إن الفرق الثقافي الجوهري بين العربي المسلم، والفارسي أو اليوناني أو الهندي، لم يكن فرقاً في طبيعة اللغة: العربي (تقيّده) لغته و(تمنعه) من التفكير والبحث، وأولئك (تحررهم) لغاتهم، وتفسح لهم مجال المعرفة والبحث».

مثل تلك الموضوعات الإشكالية التي يبحثها أدونيس، لن تجد في عالم مرتهن إلى سائده في جانبه الردئ، وعالمه المعطّل، وتعاطيه مع الاجترار أكثر من اجتراحه الإبداع، أي استعداد للإنصات إليها؛ عدا النظر فيها وإعادة قراءتها.

في «سلطة الأصل»، يعمّق أدونيس مفهوم «الأصيل» و»الدخيل»، فيما يتعلق بالتراث. والتناول هنا هو الآخر لا ينأى عن الموضوعات السابقة التي تناولتها هذه المراجعة. ثمة هاجس أو التباس، وأحياناً تغاضٍ عن حقيقة ما بين أيدي العرب اليوم. مالهم وما عليهم. ثمة مسافة من الهواجس في الفصل والتمييز.

«يعود اليوم هاجس التراث متلبّساً صيغته في الماضي: ثنائية الأصيل/ الدخيل. ومن هنا نرى أن الفكر المهيمن الذي يصدر عن ذلك الهاجس، منذ العام 1798، تاريخ دخول (الدخيل) الغربي الحديث، ممثلاً بالحملة الفرنسية البونابرتية على مصر، إنما يتّبع المسار ذاته الذي فتحه (الأصوليون) العرب الأوائل في مناقشتهم العلاقة بين الأصل الإسلامي-العربي (اللغة، الوحي-الدين)، والدخيل الأجنبي، اليوناني خصوصاً (العقل-الفلسفة). وهكذا تولّدت ثنائية الأصيل/ الدخيل، ثنائية: الوحي/ الفلسفة، النص/ الرأي، أو النقل/ العقل».

في عنوان/ تساؤل... أو تساؤل/ عنوان: أهناك «ذاتية» في الثقافة الإسلامية السلفية؟ بعد مقدّمة في الفصل الذي يحمل العنوان نفسه، يصل في بداية بحثه إلى أنه «قلّما تعرف الثقافة الإسلامية، وفقاً لتأويلها السلفي، عذاب الأسئلة، أو الشك ومتاهاته، أو الرفض وأبعاده. ليس أمامها غير اليقين وطمأنينة اليقين». ماذا بعد؟ ما المحصّلات؟ ما المآلات؟: من هنا لا نجد في هذه الثقافة الدينية (السلفية) مجالاً للذاتية الفردية تتحرك فيه بحريّة، إثباتاً ونفياً، رفضاً وقبولاً، شكّاً وإيماناً. الذاتية ذائبة في الجماعة-الأمة».

وفي عروجه على المتصوفين، فيما يشبه المفارقة، وهو يقرر نفي «المجال الذاتي الفردي» في تلك الثقافة، يقول: «إن (الذات)، وفقاً للاتباعية الشرعية، إنما هي (موضوع)، أو كينونة شرعية خارجية. ونعرف، تاريخياً، أن المتصوفين حاولوا أن يخترقوا هذا الخارج، فعارضوا الشريعة بمفهوم الحقيقة التي هي من عالم الداخل، عالم الحدوس والرؤى، والشطحات، مؤكدين، درءاً للشبهات، عدم التعارض بين الحقيقة والشريعة. ونعرف أن اضطهادهم وقتل بعضهم، بحجّة الخروج على الشرع والدين، أدّيا، لا إلى نبذ التصوف وحده، وإنما كذلك إلى نبذ القول بعالم داخلي تصدر عنه المعرفة والحقيقة، وإلى مزيد من التوكيد على أنه لا وجود إلا للظاهر الخارج، ولا حقيقة إلا فيه، وحده، مرتبطاً بالنص في ظاهر، وحده».

يعجّ «المحيط الأسْود» بموضوعات متصلة ومتقاربة من حيث تناولها وإشكالاتها، والمآزق التي تتراكم وتتأبّد في عالم العرب والمسلمين على مستوى الفهم الذي «يظنونه فهماً» في السعي إلى المطابقة التي تم تناولها في المراجعة، فيما هو «وهم» ودون الفهم بمراحل.

موضوعات على صلة يفكك فيها أدونيس مفاهيم وممارسات وواقعاً فيها مثل: بين طغيان الطبيعة وطغيان الإنسان، كلوا الرغيف بالملعقة، واشربوا الماء بالغربال، الرأسمال الآلي، والرأسمال الإنساني، العولمة الأميركية والمدنية العربية المعطّلة، العمق والسطح، المصير العربي: بين الانكفاء المتشرذم والحضور الكوني، وراء التاريخ، تحت المستقبل، حول الحوار الثقافي، الأوروبي-الإسلامي، الشرق-ما هذا الشرق؟ وغيرها من الموضوعات.

كتاب/ صدمة، أو صدمة في كتاب لا فرق، وربما يكون أكثر إصدارات أدونيس مقاربة وتناولاً لواقع المفاهيم وأصحابها في عالم العربي اليوم. لا يَعِد الكتاب إلا بالاستفزاز للذين يأتونه مسلّحين بما يعتقدون أنها الحقيقة المطلقة، استناداً إلى «نقل» حفظوه عن ظهر قلب. العقل؟ تلك مسألة أخرى!

العدد 4291 - الجمعة 06 يونيو 2014م الموافق 08 شعبان 1435هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً