العدد 4291 - الجمعة 06 يونيو 2014م الموافق 08 شعبان 1435هـ

المثقف... وما بعد الربيع العربي

مثلما يقف السياسي اليوم أمام خريطة العالم متأملاً من خلالها التضاريس السياسية التي اختفت أو تلك التي في طور التشكل بفعل الارتدادات الجيوسياسية للربيع العربي الذي عصف بالمنطقة منذ العام 2011، ينشغل المثقف العربي هو الآخر أيضاً بمحاولة إعادة قراءة المجتمع من خلال تفكيك بنيته الثقافية وإعادة تركيبها وفق قناعاته الفكرية، وهي مهمة ليست بجديدة عند المثقف المعاصر فهو في كل منعطف تاريخي يعيد تقييم تجربته الاجتماعية بكل إشكالياتها، حدث ذلك إبان الاستعمار الأجنبي للعالم العربي إلى نكبة فلسطين 1948 وثورة يوليو/ تموز 1952 ونكسة 67 مروراً بحصار بيروت في 1982 إلى حرب الخليج الثانية 1990 والثالثة 2003، ولكنه ظل في كل هذه المنعطفات بمثابة الجسر المعلق بين زمنين من دون أن يكون له دور يذكر في صياغة الواقع.

المشهد العربي بعد ربيعه لم يكن أفضل مما كان قبله، حيث لم يسفر ذلك البوح الجماعي المعبر عن التوق إلى غد أفضل، والذي عبرت عنه الاحتجاجات الشعبية سوى إعادة تلميع جزمة عسكرية هنا، أو إعادة إنتاج المنظومة الاستبدادية بغطاء ديني كما حدث في مصر، بحيث وصف الكاتب سعيد ناشيد في مقال له وصول الإخوان المسلمين إلى السلطة هناك بمثابة بداية «عتبة قرون وسطى جديدة ستستغرق عقوداً طويلة إن لم يكن قروناً طويلة» (الملحق الثقافي صحيفة الاتحاد الإماراتية 20 مارس/ آذار 2014)، وهو بذلك يبرز الانقسام العمودي الثقافي في المجتمع المصري والذي ظهر جلياً في الفارق الضئيل من الأصوات التي حصل عليها مرشح الإخوان محمد مرسي ومرشح الحكم المدني محمد شفيق.

في قراءة المشهد السياسي من وجهة نظر سياسية بحتة يمكن تحليل ما آل إليه الربيع العربي إلى وجود ما يسمى بـ «الدولة العميقة» التي تغلغلت في بنية المجتمع وأصبح لها مؤسساتها وشخوصها اللامرئية بفعل التقادم الزمني على وجود السلطة، والتي من خلالها تستطيع السلطة إعادة انتاج نفسها حال انهيارها ولكن بشخوص مختلفة، بينما المثقف إذ يمثل الرؤيا الاستراتيجية عليه أن يحفر بعيداً في مسميات الدولة العميقة ويبحث في الجذور الاجتماعية والفلسفية للوصول إلى شفرة هويته الحضارية في عالم متعدد الهويات.

وفي هذا الإطار فإن أمام المثقف العربي مهمة صعبة وشاقة جداً، فهو مطالب اليوم بصياغة قاعدة فلسفية لنمط الحكم وفق أسس اجتماعية وفكرية محكمة نابعة من قراءته لسياق التطور الزمني للأمة وبنائها الفلسفي في الاجتماع، بعيداً عن النظريات المعلبة في الفكر والسياسة التي أشبعت فكاً وتركيباً خلال العقود الماضية، وقراءة الواقع وفق ما يعبر عنه المفكر محمد أركون «فحص المجتمعات من ذاتها ولذاتها» وباستخدام «تعبيرات المجتمعات الإسلامية ومطالبها الراهنة، وهو بمثابة نقد ضمني لتلك الوصفة الجاهزة لقراءة الواقع العربي الإسلامي.

لعل من المفاهيم الجدلية الجلية بين المكونات الثقافية المجتمعية في العالم العربي مسألة «فصل الدين عن السياسة» التي تتفرع عنها قضايا جوهرية كبرى أيضاً، فالمثقف الحداثي ذو الصبغة العلمانية يرى أنه لكي يتم إنجاز دولة عصرية بقيم حداثية، فلابد من فض الشراكة بين الدين والدولة، على اعتبار أن تقدم الغرب كان نتيجة لذلك الفصل، مما أدخل المثقف في اشتباك فكري مباشر مع القوى المتجذرة في المجتمع والتي لها حاضنة اجتماعية ممتدة من الأرياف إلى المدن ونعني بها القوى ذات التوجهات الدينية، والنتيجة هي فشل مشروعه الفكري قبل أن يبدأ...

لقد حاول المثقف خلال العقود الماضية تسويق النظريات الغربية على المجتمع الشرقي في مسألة علاقة الدين بالدولة، رغم أن هناك مفارقة عكسية بين ما يسميه الدكتور محمد جابر الأنصاري التكوين الفكري السياسي العربي وبين تكوين الغرب الفكري والسياسي، هذه المفارقة تتمثل في أن الدولة المدنية في الغرب كانت موجودة بهيكلها السياسي والإداري وبصبغتها الجمهورية أو الاستبدادية بأكثر من 500 سنة قبل مجيء الديانة المسيحية، وقامت الكنيسة بمحاولات حثيثة لبسط نفوذها الروحي والسياسي في آن واحد، وقد تجلى ذلك واضحاً في الأزمة بينها وبين الحاكم الروماني في فلسطين حيث كان يتمتع بسلطة قانونية نافذة، ومن ثم بدأ الصراع يتمدد بين النظام المدني المتأصل في الفكر الأوروبي وبين الفكر الديني الوافد إلى أن استعادت أوروبا هويتها الأولى بانتصار الفكر العلماني المدني.

ونقيض ذلك، فإن العرب تأصل تكوينهم الفكري في الجزيرة العربية على ما جاء به الإسلام من قيم وتشريعات كانت تعبر عن فلسفة الحكم الجديدة في هذه البقعة الجغرافية على أساس ديني حيث أضحى الإسلام السلطة الروحية والزمانية لشبه الجزيرة العربية بعد فتح مكة، واستمرت هذه السلطة حتى في زمن الدولة الأموية والعباسية رغم انتهاجها نهجاً ليبرالياً على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي. وقد ظلت المجتمعات العربية إلى يومنا منشدة فكراً وشعوراً لذلك التحول الحضاري الذي أحدثه الاسلام كدين ودولة.

إن المثقف لا يمكن له أن يبلور نظرية اجتماعية سياسية فكرية تقاوم الحنين المجتمعي إلى تلك البدايات التي صاغت هويته الحضارية من دون أن يستقي النظرية من ينابيعها الفكرية الأولى كي يستطيع إنهاء أزمة الهوية التي بدأت منذ انهيار دولة الموحدين 1269، والتي مثلت نقطة الانحناء للهوية بحسب تعبير المفكر الجزائري مالك بن نبي.

العدد 4291 - الجمعة 06 يونيو 2014م الموافق 08 شعبان 1435هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً