العدد 4291 - الجمعة 06 يونيو 2014م الموافق 08 شعبان 1435هـ

هاشم ومهدي وعلي... «في عرض البحر»

مع العرض الأول لمهرجان الريف المسرحي الثامن الذي قدمه مسرح الريف تحت عنوان «في عرض البحر» على مسرح الصالة الثقافية في الجفير مساء يوم الأربعاء 21 مايو/ أيار 2014، يجد المتفرج نفسه فجأة «في عرض البحر» مع ثلاثة من الممثلين الذين ليس لهم من مجاديف سوى الأفكار والكلمات. هل استطاع العلوي مخرج المسرحية الانتقال بنا وسط لجج الأفكار وهدير الأمواج من محطة إلى أخرى، أم بقينا معه نراوح مكاننا «في عرض البحر» الذي ألقانا فيه.

نفذ الأكل على السفينة وكان على الممثلين الثلاثة أن يأكلوا أحدهم ليعيشوا. دارت حوارات المسرحية ذهنياً وعلى سفينة متخيّلة حول فعل الأكل ورمزيته كآلية من آليات التسلط التي تفرضها القوة، وتحتاج إلى وقفة خاصة لقراءتها وتفكيكها، فبينما مثل الفنان مهدي سلمان شخصية الدكتاتور، ومثل الفنان علي يحيى شخصية الانتهازي، اختار مخرج المسرحية هاشم العلوي لنفسه شخصية الضعيف فيا ترى من سيكون الضحية.

تمويت الفعل الدرامي

في المسرحية التي ألفها سلافومير مروجك، تداول أطراف الحوار الممثلون الثلاثة ومن خلال هذه الشخصيات قدم المخرج مسرحية ذهنية لمناقشة جدلية القوة والضعف، وتولد فكرة الانتهازية من رحم المأساة بينهما. ثمة انحياز للذهنية منذ البداية فقد قضى المخرج على أي تصاعد درامي على مستوى الفعل المسرحي الحركي حين صرّح مباشرة من خلال الحوار بأن هؤلاء الثلاثة عالقون وسط البحر، وهم جوعى، وأنه يجب على أحدهم أن يكون مأكولاً، بينما كان بإمكان المخرج أن يعيد الحبكة بحيث نصل إلى هذه النتيجة على المستوى الدرامي تصاعدياً، ولكنه انحاز مباشرة لأن يضعنا وسط المشكلة تماماً كما هو العنوان «في عرض البحر» وبقي سؤال واحد فقط كان على العرض أن يجيبنا عليه ويختبر صبرنا في تتبعه، وهو من سيكون الضحية هل هو الدكتاتور أم الضعيف أم الانتهازي. ولعل في هذا السؤال نفسه تكمن عملية التصاعد الدرامي ولكن على المستوى الحواري ذهنياً، وبطبيعة الوظائف الثلاث للشخصيات الثلاث من «قوة وضعف وانتهازية» ستكون النتيجة محسومة، ولكن لننتظر فربما يكون هناك أمر آخر.

رمزية فعل الأكل

انتظرنا كثيراً لنعرف من سيكون المأكول ولكن هذا الانتظار لا يحيلك على شيء سوى التفكير في «رمزية فعل الأكل» وما يحمل وراءه من ثقافة، فما الأكل هنا سوى استعارة لدلالة على الغلبة من قبل القوي، والاستهواء والتزلف لها من قبل الانتهازي، والتسليم والاستكانة لها من قبل الضعيف، فليس هؤلاء الممثلون الثلاثة سوى أقنعة لفكرة القوة وما تفرضه من مستدعيات مثل فكرة الضعف وفكرة الانتهازية. بهذا يكون فعل الأكل هو أحد آليات التسلط الرمزية للقوة، ولعل في القراءة الثقافية لفعل الأكل ما يؤيّد هذه الحالة فكثيراً ما نعبّر عن القوي بالآكل والمهزوم بالمأكول سواء في الجد أو في اللعب فنقول القوي يأكل الضعيف، ونقول «أكلناهم» للدلالة على الغلبة، وبيت الشعر يوضح ذلك حين يقول في شطره الثاني متساوقاً مع هذه المخيلة «إن من كان ضعيفاً أكلته الأقوياء» ونقول «أكلتنا أكال» لمن يستقوي علينا بالكلام. في المسرحية ليس ثمة آليات للاستقواء سوى الكلام وممارسة التسلط الرمزي الذي يخلق فكرة الدكتاتور، وما تستدعيه من استضعاف للآخر، أو ما تستدعيه من تخلّق فكرة الانتهازية حين الوقوع بينهما، لنصل إلى أنه فعلاً هناك «استعارات تقتل» فإذا كان هناك من الكلام ما أكل فإن هناك من الكلام ما قتل، وهكذا انتقلنا من الكلام الآكل، إلى الكلام القاتل.

الخروج من اللعبة

في هذه المسرحية ما يستدعي كل هذا العمق حين التفكير في مسألة القوة والضعف واستكناه فكرة الأكل، ولكننا علقنا مع الممثلين بين الدخول في اللعبة الرمزية، أو الخروج منها، بين الاستهواء للحكاية وأن هؤلاء الثلاثة فعلاً جوعى وسط البحر، ولكن بشكل غير مقنع، وخصوصاً في ظل عدم استنفاذ الطرق الأخرى للحصول على الطعام قبل التفكير في أكل أحدهم. مع دخول ساعي البريد وزميله تأكد هذا الاحتمال في قربهم من اليابسة فوصول هاتين الشخصيتين إلى السفينة يؤكد أن اليابسة قريبة، وأنه بالإمكان الحصول على الأكل من غير الحاجة لأن يأكل أحدهم الآخر. هذه الملابسات، ومحاولة تغييمها أو تمويت الزمن في ظهورها، هي فرصة لتغليب الفكرة الرمزية في فعل الأكل في المسرحية. كان بالإمكان التماهي مع هذه الحالة الرمزية الموجودة في النص أساساً، وتعميقها بأفعال أخرى تماماً كما في إبراز حركة الممثلين برقصة الهنود الحمر أو تمثلهم لحركات وطقوس آكلي لحوم البشر، وهو ما جلّى تجذر هذا الفعل في العمق الثقافي تاريخياً أو على مستوى المخيلة البشرية في صيغة مسرحية.

الاختيار أو الفناء

ثمة في المسرحية مجموعة من الألعاب التي نثرت في شكل متتابع لتؤكد رمزية فعل الأكل على المستوى السياسي والثقافي والتي من المفروض أن تقنع من يقع عليه الاختيار بقبول مصيره، مرة في إجراء القرعة لاختيار الشخص الجدير بالأكل، ومرة في قراءة تاريخ كل من الشخصيات الثلاث وتعيين الأفضل، ومرة في إجراء انتخابات لاختيار من سيتم أكله. ولم تفلح كل هذه الوسائل سواء الإعلامية أو الديمقراطية في حسم عملية الاختيار أو في إقناع أي منهم بأن يكون الضحية، فلم يبق سوى أن تأتي العاصفة وتفرق بين الجميع، لتعكس مقولة الاختيار أو الفناء، وأن الحال سيظل على ما هو عليه من الصراع، وأنه لا قيمة للثلاثة إلا في اجتماعهم وتشكيلهم لأجزاء هذه اللعبة أو الفناء.

العدد 4291 - الجمعة 06 يونيو 2014م الموافق 08 شعبان 1435هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً