منذ 3 يوليو/ تموز 2013 تتنازع المصريين نزعتان، الأولى تدفع بهم نحو الاحتماء بالأمن والاستقرار والعودة إلى الحياة الطبيعية، وفي الوقت نفسه هناك نزعة أخرى تتواجه معها وتتكامل متعطشة للكرامة والعدالة والحقوق والحريات. وباستلام الرئيس عبدالفتاح السيسي مسئوليات الحكم تتعمَّق التناقضات، فالحكم بعد الثورة ليس أبداً مثل زمن ما قبل الثورة. إن التضييق على الحريات يعكس خوفاً كبيراً من الحقيقة، وتقديس القضاء بحيث يكون نقد قراراته تهمة تعكس خوفاً أعمق على مستقبل النظام السياسي، أما قانون التظاهر، وإيقاف برنامج باسم يوسف (المبهر) وتوقف بعض كبار الكتاب ومنهم بلال فضل عن الكتابة في «الشروق» واختفاء بعض الإعلاميين من حاملي الرأي المستقل والتنويري فيحمل دلالات كبرى عن طبيعة المقبل. إن مقدمات المشهد الراهن تحمل في طياتها بذور إعادة إنتاج الحالة المصرية إلى النظام السابق مع تغيرات لن ترتقي إلى الحدث وطبيعة التحول الذي وقع ويقع في قواعد المجتمع الشبابية والشعبية منذ الثورة. إن شريحة التغيير في مصر مادتها الشباب، وهذه فئة لن تقل عدداً بينما ستزداد مع مرور الأيام حاجتها إلى التعبير عن ذاتها وعن طموحاتها.
وسيكتشف الرئيس الجديد مدى صعوبة التغيير والإصلاح في واقع منقسم تسيطر عليه قوى الدولة العميقة ورجال الأعمال وإعلام منحاز وحالة فساد مرضية ومصالح نخبوية ضيقة لا يشترط أنها تشاطر الرئيس كل توجهاته وطموحاته، لكن الصعوبة ستزداد وضوحاً بسبب وجود تيارات اجتماعية ستزداد اتساعاً، فهذه التيارات تحمل هموم الثورة المصرية وطروحاتها بصفتها وصفة معنوية وبداية تجديدية لمصر نامية وعادلة وديمقراطية. وهذا يعني أن إحياء تداخل السياسي بالاقتصادي مع اقتصاد الجيش في ظل وصفة النظام القديم لن يجلب استقراراً دائماً لمصر ولن ينجح في تلبية رغبات الشعب المصري وسيؤدي إلى نشوء حركة تذمر واحتجاج.
ومن الطبيعي أن نكتشف أن تدخل الجيوش في السياسة يحصل عندما يفشل السياسيون في بناء إجماع في ظل أزمة. فالجيوش في التاريخ الحديث خرجت عن حياديتها وذلك في ظل انسداد الأفق السياسي وتنامي خوف المجتمع من البدائل، وفي هذا درس دائم للساعين إلى التغيير مدنيين يساريين كانوا أو إسلاميين أو اشتراكيين. فالجيوش بطبيعتها، كما يؤكد التاريخ، لديها نزعة إلى الحسم إذا وجدت فرصة سانحة في ظل تناحر القوى السياسية. كما أنها تتدخل في محاولة منها لاستباق إمكانية نجاح السياسيين في التوصل إلى اتفاق. فهي الأخرى طامعة بالسلطة. وما إن تتدخل الجيوش حتى تكتشف قوتها في السلطة والنفوذ، وهذا يدفعها إلى أن تزداد توغلاً في ممارسة سلطتها كما حصل في عملية فض تجمع رابعة العدوية وما تلاها من أحداث.
إن المؤسسة العسكرية شديدة الانضباط وقبضتها من حديد، وتنظر إلى الحركات السياسية المختلفة والشباب ودعاة الإصلاح والحريات والمعارضين نظرة ارتياب. بالنسبة إلى الجيش المتداخل مع السياسة والاقتصاد سيصبح التعبير المفتوح تهديداً للأمن القومي، وسيصبح الرأي الآخر مساعدة للإرهاب ونقد قرارات القضاء هدماً للدولة. وسيتحول نقد الرئيس والجيش والقادة الرئيسيين خطراً على النظام الجديد. وبما أن الجيش مهموم بالأمن القومي وبسلطته الجديدة فسيكون تحمله الاختلاف أقل من غيره. إن هذه الأبعاد تؤكد أن العهد الجديد في مصر سيجد صعوبة في بناء حالة انفتاح سياسي، وعلى الأغلب (من دون أن أجزم في هذا الأمر) لن يعرف الجيش متى يجب أن ينسحب من المشهد لمصلحة المدنيين والسياسيين. إن تجربة سوار الذهب في السودان نادرة وتمثل الاستثناء في تاريخ الجيوش العربية.
سيحتاج المصريون إلى بعض الوقت ليكتشفوا أن العهد الجديد المدعوم من الجيش سيسكّن مشكلات مصر لكنه لن يحلها. فالأمن الحقيقي لن يقع بلا إجماع سياسي يؤدي إلى اتفاق بين مكونات مختلفة ومتناقضة تشمل تيار «الإخوان المسلمين» وكل التيارات السياسية والاجتماعية. سيجد النظام الجديد أنه لا يستطيع حل مشكلة العشوائيات ومشكلة أطفال الشوارع والبطالة وفوضى التعليم وضعف الصحة والاقتصاد وانتشار الفساد بلا مجتمع حيوي يتشارك ويتقاسم. ومع الوقت سينفر كثرٌ من المصريين ممن لا مكان لهم في المعادلة الجديدة من الوضع الجديد.
وكيفما تناولنا انتخابات مصر الأخيرة، فهي لم تكن ديمقراطية وفق مقاييس التحول الديمقراطي. فكل انتخابات تقع في ظل سيطرة إعلامية لتيار واحد، وعزل للتيار المعارض والمنافس واعتقال غالبية فريق الخصم ووصمها بالإرهاب، بينما 18 ألف مواطن في السجون ويعانون من أحكام تعسفية، لا يمكن وصفها بأنها ديمقراطية. لتكون الانتخابات ديمقراطية كان يجب أن تقف الأجهزة على الحياد، وألا يكون ترشح المشير السيسي في بدايته بطلب من الجيش، كما أن مقار الجيش كان يجب أن تبتعد عن الحملة الانتخابية. في هذه الانتخابات كانت الدولة العميقة مؤيدة لمرشح الجيش وضد المرشح الآخر، وهذا يمثل تناقضاً يشكك في ديمقراطية الانتخابات. وقد زاد من ارتباك الحالة الانتخابية في مصر إعلان النظام أن اليوم الثاني من الانتخابات إجازة ثم إعلانه تمديد الانتخابات ليوم ثالث وتهديد المواطنين بالغرامات واتهامهم من جانب وسائل الإعلام المحسوبة على النظام بالتخاذل والخيانة. في هذه الانتخابات صمتت غالبية المصريين بينما رأى الشباب في الانتخابات عودة إلى النظام القديم وسلطة الجيش.
في المرحلة القريبة المقبلة سيكون الباب مفتوحاً في مصر لإعادة تشكيل جبهة معارضة واسعة تسعى إلى حماية مبادئ ثورة 25 يناير/ كانون الثاني، لكن هذه الجبهة العريضة ستسعى إلى إيجاد حل لمشكلة الدولة العميقة بصفتها جزءاً من المشكلة، أي بصفتها دولة لا تساءل وبصفتها دولة بيروقراطية تتعامل مع الاقتصاد والقضاء بصفته تابعاً لها. الصدام مع الدولة العميقة مقبل، لأن عناصر القوة الناعمة والقوة الحقيقية لم تعد في الجيوش بمقدار ما أصبحت في الناس والمجتمعات والنشطاء وصناع الفكر والشعارات ومحركي التغيير. لهذا، سيكون الصدام المقبل ثقافياً، وسياسياً، وشعبياً وفوق كل شيء سلمياً يتعامل مع سلطة الدولة العميقة المطلقة وسلطة الجيش الشاملة بصفتها قوة خشنة لن تعرف كيف تقود مصر عبر الزمن الجديد. سيكون الهدف المقبل للحركة المجتمعية دفع الدولة العميقة خطوات إلى الخلف لمصلحة المواطن وحقوقه من دون تدميرها، ودفع الجيش إلى الخروج من السياسة والعودة إلى الثكنات من دون التأثير في مهمة الجيش في حماية الأمن الوطني ووحدة مصر وسيادتها.
سيكتشف الرئيس الجديد المشير السيسي مدى امتلاء مصر بطاقة سياسية تخرج من القاعدة الشعبية والشبابية، وكم أن الدولة القديمة العميقة لم تعد قادرة على التجديد في ظل وضع يتطلب قفزات نوعية وليس سيراً عادياً. لهذا سيرتفع منسوب النقد الذي سيدفع المصريين إلى استيعاب الدولة العميقة ووضعها في إطار المساءلة. بين مقولة إن الدولة العميقة مصدر السلطات وبين مقولة إن الشعب مصدر السلطات يتعمق صراع المفاهيم حول المستقبل التنموي والديمقراطي، وبطبيعة الحال لهذا الصراع تأثيراته في كل أرجاء الوطن العربي.
إقرأ أيضا لـ "شفيق الغبرا"العدد 4290 - الخميس 05 يونيو 2014م الموافق 07 شعبان 1435هـ