بوفاة الشاعرة الأميركية مايا أنجيلو في 28 مايو/ أيار 2014، يستذكر غاري يونغ، في مقال له بصحيفة "الغارديان" يوم الخميس (29 مايو 2014) مقابلة أجراها معها في العام 2002. في ثنايا المقال، يستدعي يونغ وصفاً أطلقه عليها، بعد أن أجرى مقابلة لاحقة للقائه الأول بها: "إنها الأمنيات في شكل إنسان" إنها "داعية الأمل"!
ثمة تفاصيل على هامش اللقاء كانت بأهمية المقابلة نفسها. تفاصيل هي على علاقة باليوميات. التفاصيل التي عادة لا تجد مكانها في السيَر الذاتية، أو في الشعر. تفاصيل ما يُظن أنها هوامش، ولكنها جزء من حياة كبرى بكل تفاصيلها الكبيرة والصغيرة.
في المرة الأولى التي أجريت فيها مقابلة مع مايا أنجيلو في العام 2002، حصلت على موافقتها بالنشر. اللقاء الذي كان من المفترض أن يستغرق 45 دقيقة بفندق بالقرب من لوس أنجليس، امتد إلى 16 ساعة في ذلك اليوم. معظم اللقاء تم إجراؤه في سيارتها اللموزين كنا خلالها وفي السيارة نفسها كنا نتناول وجبة الغذاء.
كنا على موعد مع حركة ازدحام المرور، التي باتت أمراً مألوفاً، والسيارة بالكاد كانت تتحرك فيما يشبه الزحف، فيما الحديث ظل مستمراً. تحدّثنا عن جنوب إفريقيا، والكتابة، التقدّم في السن، والبقاء بحيوية الشباب، تحدثنا عن أمهاتنا، عن الفقراء الذين يشبّون ويكبرون خارج أوطانهم. ضحكنا كثيراً، وتحدّثنا بالطبع عن بعضنا بعضاً، عن عموم الحماقات التي يرتكبها الإنسان. ما لحظته أنها ظلت متحفّظة في سخريتها، إلى أن بلغنا الفندق الذي أقيم فيه. لم تكُ ضحكتها مثل أي شيء عابر أو صغير. ألقت برأسها إلى الخلف في السيارة كأنما ملأتها بالكامل، على رغم أنها كانت كبيرة الحجم. قالت بشكل عرضي: "تبدو الكلمات وحدها لا تكفي"، فيما تكسر الكلام العادي، ولحظات الصمت وسط كل ذلك، ودون سابق إنذار، بمقطع شعري، أحياناً من إحدى قصائدها، وأحياناً لشعراء آخرين.
عندما سألتها كيف تعاملت مع ردود أفعال الناس بالنسبة إلى الشيخوخة، عمدت إلى قراءة المقطع الأخير من قصيدتها "في الشيخوخة":
أنا الشخص نفسه الذي كان في ذلك الوقت
الشَعْر أقل قليلاً، الذقن أقل قليلاً،
رئتان أقل كثيراً والرياح أقل من ذلك بكثير.
ولكن، ألستُ محظوظاً لأنني ما أزال أتنفس؟
لتبدأ موجة الضحك مرة أخرى. وتوارت سيارتها بعيداً بعد أن قامت بتوصيلي إلى الفندق، قبل ذلك أخرجت رأسها من النافذة ولوّحت بيدها وصاحت كفتاة مراهقة: "إنه أمر فاخر". كأنها تريد القول: فاخر أن تكون هنا. أن تكون حياً. أن تختبر الكلام... والشعر أيضاً، من دون أن تنسى الصمت! كانت في الرابعة والسبعين وربما أكثر من ذلك. لم أكُ أستطيع أن أصرّح وقتها بشكل واضح عمّا إذا كانت ثَمِلة أم لا. الواضح لديّ، أنها كانت وقتها في منتهى الجدية طوال الساعات التي قضيتها معها. لو تنقطع عن حال الغناء والضحك منذ التقينا صباحاً.
أي شخص يعرف عملها، وما أنجزته وقصة حياتها - وذلك جزء كبير ومهم مما أنجزت - سيدرك أن مثل ذلك الغناء والضحك هو الوجه الآخر للعملة فيما يتعلق بحياتها. كانت المعتقدات والثوابت التي عاشت من أجلها – تعلّم ويتعلّم منها الناس إلى أن يدركهم الموت وهم على فراش الاحتضار، يتعلمون من كل تلك السيرة الغنية والثرية، بالمعتقدات والثوابت التي لم تحد عنها، " بأن لديك حياة واحدة فقط وهي وجيزة وواهية في الوقت نفسه، إن لم تعمد إلى امتلاكها لن يمنحك أحد إياها. هي ذاتها المرأة التي عاشت حياتها من أجل المبادئ تلك مكرّسة إياها في التفاصيل واللحظات الفارقة. الحياة التي عاشتها لم تكن عادية بالكامل. خذ مثلاً، حين بلغت الأربعين من عمرها، كانت راقصة محترفة، وغانية، وسيدة بيت، ومحاضرة، وناشطة حقوقية، ومغنية، وكذلك محررة أدبية.
عملت مع مارتن لوثر كينغ ومالكولم إكس، وعاشت في غانا ومصر، وقامت بجولة في أوروبا مع فرقة الرقص التي عملت بها، واستقرت إلى حد كبير في معظم مناطق الولايات المتحدة الأميركية. وطوال الوقت كتبت عن كل ذلك، متخذة صياغة كل تلك التفاصيل بسخريتها كشاعرة. تلك السخرية هي ما أضفت عمقاً وجمالاً حتى في الأوقات والتفاصيل الملبّدة بالألم.
"لقد كانت حياتي طويلة"، وكما كتبت في واحد من إصداراتها الأخيرة "اعتقاداً بأن الحياة تحبّ المقيم فيها، تجرأت على محاولة كثير من الأشياء، كنت أرتجف في بعض الأحيان، ولكنني لا أزال جريئة".
في مقابلة لاحقة لها وصفتها، والكلام لغاري يونغ، بأنها "الأمنيات في شكل إنسان" وأيضاً "داعية الأمل". عاشت كما لو أن غداً لن يكون. والآن لن يكون هنالك غد بالنسبة إليها. لقد تُركنا للتأمل - بالنسبة لنا وأيضاً لها - حيث يمكن للجرأة أن تحصل لك، كما حصل لها في الثبات على جرأتها التي صنعت منها ملهماً للأمل ودالّة عليه.
ولكن مع رحيلها، لم تفقد أميركا فقط امرأة مقاوِمة أو مجرد راوية موهوبة. فقدت برحيلها اتصالها بالماضي القريب، ذلك الذي ساعد على إحداث فارق في الحاضر الذي تشهده وتعيشه البلاد.
في الوقت الذي سعى كثير من الأميركيين إلى السفر وهم مصابون بما يشبه "عمى الألوان"، متحررين من الأمتعة، ومن تاريخ البلاد العنصري، وقفت، بقامتها الطويلة، عمادها المباشرة والحقيقة: امرأة سوداء من الجنوب ترتبط ارتباطاً وثيقاً بتحوّل أناس وساسة ساعدوا في الشكل والصورة العنصرية لأميركا.
امرأة عقدت العزم على إعطاء صوت لكل من لإحباط والتشدّد من دون أن تُستهلك عن طريق عدم قدرتها على التواصل مع أولئك الذين لا علاقة غريزية لهم مع كل ذلك. امرأة، وبكلماتها الخاصة، تقرّر أن تذهب من خلال الحياة مع "العاطفة، والحنان، والنكتة وبعض الأسلوب"، وستستخدم كل تلك الصفات وأكثر لتذكير أميركا من أين جاء كل ذلك الإحباط والتشدد.
ووصفت هجمات 11 سبتمبر/ أيلول 2001، الذي فجّر فيه برجا مركز التجارة العالمي في نيويورك، بأنها "جريمة الكراهية"، وقالت: "العيش في حالة من الرعب كانت جديدة لكثير من الناس البيض في أميركا، ولكن السود كانوا يعيشون حالة الرعب تلك في هذا البلد لأكثر من 400 عام".
يبقى سرد جزء من سيرتها مهماً لإضاءة القارئ، ولمعرفة قريبة لهذه الشخصية الإبداعية والحقوقية الاستثنائية في التاريخ الأميركي المعاصر. مارجريت آن جونسون وشهرتها مايا أنجيلو، ولدت في سانت لويس في الرابع من أبريل/ نيسان 1928 وتوفيت في 28 مايو 2014. شاعرة وكاتبة أميركية أصدرت سبع سير ذاتية وخمسة كتب في فن المقال والعديد من المجموعات الشعرية. تنسب إليها قائمة من المسرحيات والأفلام والبرامج التليفزيونية التي امتدت إلى نحو أكثر من خمسين عاماً. حصلت أنجيلو على عشرات الجوائز، بالإضافة إلى حصولها على أكثر من ثلاثين شهادة دكتوراة فخرية. تشتهر بسلسلة التراجم الذاتية التي تنصب على مرحلة طفولتها وتجاربها الأُوَل في مرحلة المراهقة. وتناولت سيرتها الذاتية الأولى "أعرف لماذا يغرد الطائر الحبيس"، حياتها منذ لحظة الميلاد وحتى سن السابعة عشر، ومنحتها السيرة تلك اعترافًا وإطراءً عالميًا وشهرة واسعة.
كانت ناشطة في حركة الحقوق المدنية وعملت مع كل من: مارتن لوثر كينغ ومالكوم إكس. ومنذ فترة التسعينيات كان لها أكثر من ثمانين ظهوراً في حلقات المحاضرات على مدار العام الواحد. وداومت على القيام بذلك حتى الثمانينيات من عمرها.