بمرور 66 عاماً على نكبة فلسطين. فلسطين التي صارت في ذيل الأجندات؛ حتى ما قبل أن يكتشف المواطن العربي حقه في الربيع، وهو المحاصر بالخريف والحريق، أعود إلى نص أدونيس «كونشيرتو القدس»، لا عويل ولا صراخ ولا شيء من بيانات الساسة. نفاذ رؤية إلى الجغرافيا؛ ليس باعتبارها حجراً ومَوَاطِن وبقعاً مقدسة فحسب؛ بل تلك الحوارية الشفيفة مع التفاصيل في الأرض وإنسانها. مع الذي يُجبر على النزوح وذلك النازح الذي تُرتّب له الإقامة في قلب المكان ولو على حساب استلال أرواح وقلوب الذين مازالوا يمارسون رحيلهم الاضطراري إلى جهات الله.
في «سماء على الأرض»: «ثلاثة وافدين مقابل مقيم واحد. المقيم يرحل، والوافد يقيم. توازن ديمغرافي! وليس هناك بابل وآشور. إنه الهدم، هدم الحجر والبشر. إنها السياسة - معمار آخر».
في استنطاق الحجر. في استدعاء البشر الغائبين وحتى الحاضرين منهم. الحضور الذي لا شيء يدل عليه كأنْ لم يكن هنا. البشر ليسوا كلهم سواء في مفْرمة النفي في الداخل. حتى القلاع والشوارع الضيقة والأزقة وبعض الكنائس والمساجد التي تحوَّلت إما إلى خمّارات أو اسطبلات للخيل والدواب.
ذلك الاستنطاق في «كونشيرتو القدس» هو الذي يعيد اكتشاف المدينة عبر مدخل اللغة. لا شيء أكثر دقة وقدرة وإدهاشاً على الفضيحة والستْر كاللغة. تفضح في صورة لن يُستر بعدها موضوعها. تستر وكأنها في كنْز حتى صاحبه نسي موضعه!
في الكتابة عن حائط المبكى/ حائط البراق، كأن المكان بتفاصيله لم يكشف لساكنيه؛ عدا الذين يعرفونه من خلال السيرة والموقع من الجغرافية. «البكاء برْقٌ حيناً، وحيناً بُراق. يتعطّر الحائطان بخطوات الله وأنبيائه ورسله... للورد الأحمر بين الحائطين ظل يتدثّر بثوب أسْود».
وفي «أرض صيام»، يعلو الأداء في «الكونشيرتو»... أداء اللغة في بضع إضاءات، لكل مفردة إضاءتها الغامرة: «لا بأس أن ترجئ صيامك، أيها الأفق. أفطرْ، لكي تقدر أن تمطر».
«كونشيرتو» جاءت من الكلمة اللاتينية «كونسرتار»، وتعني بذل الجهد أو الكفاح أو من كلمة (كونستوس) وتعني اشتراك عدة أصوات معاً؛ والكونشيرتو (Concerto) هو صنف من التأليف الموسيقي وضع لآلة واحدة أو لعدّة آلات مرافقة الفرقة الموسيقية؛ أي تقوم آلة أو آلتان أو ثلاث بأداء الدور الرئيس، أما الفرقة فتكون مرافقة فقط؛ بحسب تعريف موسوعة «ويكيبيديا».
ومثلما يتطلّب «الكونشيرتو» جهداً، ستقف على الجهد منفرداً، متفرّدِاً في العتب، التعب، الهذيان، الحواريّ، الحوار مع الأنبياء في عليائهم... ستجد فيه «الموجز السماوي»، و «السماء على الأرض»، و «الحبل بين الناقة والدبابة»، ويمد «جسراً نحو أيوب النبي»... وفي «أوميغا (فلسطينية - يهودية)، ستحضر الغوايات كأنها لم تُبدِ هيأتها من قبل: «حسَن أن تتنزه نجوم فلسطين في زيّ يبتكره الجينز المقدسي، حسَن أن يتزلج كوكب عربي بنقاب مثقّب على حائط المبكى. حسَن أن يكون الكاكاو الإفريقي ريّاً لعطش الخلايا في غوايات فلسطين. غيم الذرّة يسحّ، والنقاب فتوى الساعة».
إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"العدد 4284 - الجمعة 30 مايو 2014م الموافق 01 شعبان 1435هـ