اهتمام القيادة بتطوير علاقات البحرين مع دول العالم أجمع وتوسيع شبكة تحالفاتها في الشرق والغرب على السواء، أمر لم يعد محل جدل أو شك، ويبدو هذا الاهتمام جليا بشكل أكبر تجاه دول الجوار الجغرافي للمملكة، سيما منها تجاه أقطاب النمو الجديد في القارة الآسيوية التي استقبلت خلال الفترة الأخيرة جملة من الزيارات السامية الهادفة إلى تعميق علاقات البحرين معها وفتح أبواب جديدة لتنميتها.
وقد عكس استقبال عاهل البلاد حضرة صاحب الجلالة الملك حمد بن عيسى ال خليفة لرئيس جمهورية طاجيكستان الذي زار المملكة في الفترة من 27 إلى 29 مايو/أيار الحالي وجولة المباحثات الواسعة التي أجراها مع المسؤولين بالبلاد، عكس خطى البحرين لاستكمال مقومات علاقاتها مع دول وسط آسيا الإسلامية تحديدا باعتبارها إحدى دول القارة النامية من ناحية، ومن بين أبرز دول المحيط الحضاري القريب منها من ناحية أخرى، التي يمكن زيادة القيمة المضافة من التعاون معها في ظل خطط المملكة المستقبلية، وبرامجها التنموية المنشودة، ومساعيها لتأمين احتياجاتها في شتى القطاعات، علاوة على استمرار جهودها في الترويج للبيئة الاقتصادية التي يوفرها مجتمع الأعمال بها، ومن ثم زيادة الفرص التي يمكن للقطاع الخاص الوطني استثمارها فيها.
وتبدو أهمية زيارة الرئيس الطاجيكي للمملكة، التي استهدفت سبل دعم وتعزيز العلاقات بين البلدين والارتقاء بالتعاون الثنائي بينهما، من اعتبارين، أحدهما يتعلق بالموقع الحضاري والتاريخي والجغرافي الذي تحتله جمهورية طاجيكستان ضمن دول القارة الآسيوية النامية من جهة وبين دول وسط آسيا الإسلامية من جهة أخرى، والآخر يتعلق بالموارد الاقتصادية التي تحتكم عليها الدولة، خاصة المائية والزراعية، والتي يمكن أن تستفيد البحرين منها في إطار جهودها الدؤوبة لتحقيق مقومات أمنها الغذائي، وتعظيم العائد من وراء التعاون معها في مجالات العمل المشترك وبما يعود بالخير على كلا البلدين وشعبيهما.
وهنا يشار إلى أن طاجيكستان، إضافة إلى كونها تمثل عمقا حضاريا مهما للدول الإسلامية بأسرها، ولها علاقاتها الوطيدة مع غالبية دول المنطقة التي تشترك معها في التراث والخبرة الحضارية ذاتها، فإنها نالت استقلالها الكامل في بداية عقد التسعينيات من القرن الماضي بعد فترة من الحكم الذاتي في إطار الإمبراطورية السوفيتية السابقة، ولها تجربتها الاقتصادية المتطورة، سيما في المجال الصناعي وإنتاج الألمونيوم عالي الجودة، حيث ارتبط شمال البلاد تحديدا بشكل أو بآخر بالاتحاد السوفيتي السابق.
كما أن تجربة طاجيكستان الديمقراطية المميزة والحديثة نسبيا قريبة الشبه إلى حد كبير مع التجربة البحرينية، سواء في تاريخ وتوقيت انطلاقتها أو في التحديات التي واجهتها بداية من الفترة التي أعقبت إعلان الاستقلال وحتى اللحظة، وذلك في ظل جهود العمل التي قامت وما زالت تقوم بها الدولتان لتدعيم المقومات المؤسسية والدستورية بهما، وإجراءاتهما المتواصلة للتصدي للتهديدات التي سعت لتقويض أمنهما واستقرار مواطنيهم، مثلما أشار البيان الختامي عقب الزيارة الذي ندد بالإرهاب بكافة أشكاله ومظاهره، وأكد عزم وإصرار البلدين على مكافحته سواء في إطار التعاون الثنائي أو المتعدد الأطراف، فضلا عن موقفهما الثابت والرافض لأي استقطاب إقليمي حاول التعرض لهما والنيل منهما.
ورغم تجربة التطور الاقتصادي الصناعي لطاجيكستان، وهي تجربة مهمة يمكن أن تفيد مملكة البحرين في إطار برامجها للتصنيع المحلي وزيادة القيمة المضافة من بعض الصناعات الوطنية، لكن طاجيكستان بجانب ذلك تتمتع بموارد مائية وغذائية كبيرة، ويعتمد اقتصادها في قطاع كبير منه على إنتاج وتصنيع المواد الزراعية، سيما الغذائية منها، كما تعد الثامنة عالميا من حيث مخزونات المياه التي تمكنها من أن تكون مورد رئيسي للثروة الزراعية والحيوانية لكثير من دول العالم، ومنها البحرين في إطار توجهها لتوفير وتنويع مصادر إمداد الاستيراد وتحقيق أعلى مستوى ممكن من أمنها الغذائي والمائي.
وحقيقة الأمر، أن العامل الحضاري المشترك بين البحرين وطاجيكستان، إضافة لفرص التعاون الاقتصادي والتقارب السياسي، مثلت جميعها محاور المباحثات التي أجراها جلالة العاهل المفدى والمسؤولون في المملكة مع رئيس الجمهورية الطاجيكي والوفد المرافق له، خاصة في منتدى الأعمال المشترك، وقد عزز من حضور هذه المحاور ودورها في تطوير العلاقات والدفع بها قدما عدة أمور، أولها: أن تاريخ إقامة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين يعود إلى العام 1995، وهو تاريخ حديث نسبيا، ما استدعى من قادة البلدين العمل وبكل جهد لتطوير العلاقات الثنائية المشتركة والمضي بها إلى الأمام، وكان جلالة العاهل المفدى قد أجرى لقاءً مستفيضاً لأول مرة مع الرئيس الطاجيكي على هامش القمة الاستثنائية لزعماء الدول الأعضاء في منظمة التعاون الإسلامي بمكة المكرمة عام 2005، وهو الحدث المهم الذي أبرزه اضيف المملكة العزيز في كلمته خلال حفل استقباله، ووصف فيه جلالة العاهل المفدى بأنه "وضع من ذلك الحين أساساً متيناً لعلاقات الصداقة الجديدة والتعاون المتعدد الجوانب بين طاجيكستان والبحرين، وهي العلاقات التي أصبحت تكسب اليوم قاعدة قانونية معتمدة متمثلة في المعاهدات والاتفاقيات" التي تم التوقيع عليها وبلغت ثمانية.
الأمر الثاني يتعلق بالزيارات المتبادلة التي قام بها مسؤولو الدولتين، ورغم محدوديتها وحداثتها النسبية، لكن يبدو أن هناك اتجاها رسميا وشعبيا لتوطيدها، ويتضح ذلك في زيارة وزير الدولة للشؤون الخارجية في مايو ومارس من عامي 2010 و2013 لطاجيكستان، وذلك للمشاركة في اجتماعين أسيويين مهمين، هما الدورة الـ37 لمجلس وزراء خارجية منظمة التعاون الإسلامي، والاجتماع الوزاري الـ11 لحوار التعاون الآسيوي في دوشنبه.
وكان وزير الدولة البحريني للشؤون الخارجية قد التقى الرئيس الطاجيكي على هامش الزيارة الأخيرة، ونقل له تحيات جلالة العاهل المفدى، وتمنياته لجمهورية طاجيسكتان بمزيد من التقدم والازدهار، كما يتضح المعنى ذاته بالنظر إلى زيارة نائب وزير الخارجية بجمهورية طاجيكستان إلى مملكة البحرين في العام الماضي أيضا للمشاركة في الاجتماع الوزاري الـ12 لحوار التعاون الآسيوي الذي استضافته العاصمة البحرينية المنامة في نوفمبر 2013.
يذكر هنا أن الأمر لم يقتصر على تلك اللقاءات فحسب، إذ شهدت الفترة الأخيرة من العام الجاري عدة تحركات تؤكد ما ذهبنا إليه بشأن مسعى البلدين، الرسمي والشعبي، لتطوير علاقاتهما الثنائية والتقريب في وجهات النظر والبحث في الإمكانات والفرص المتاحة في كلا البلدين وسبل تدعيم الشراكات المختلفة بينهما، سيما في المجال الاقتصادي والأمن الغذائي، وأجرى السفير الطاجيكي المقيم عددا من الاتصالات الواسعة مع المسؤولين في المملكة، وينسب له وضع وصياغة خطوط التعاون الأولى بين البلدين.
ومن بين الدلائل على ذلك، استقبال وزير الصناعة والتجارة البحريني مطلع مايو الماضي لسفير جمهورية طاجيكستان المقيم في الرياض بالمملكة السعودية ورئيس مجلس إدارة غرفة التجارة والصناعة هناك، كما استقبلت وزيرة الثقافة في أبريل المنصرم السفير الطاجيكي المقيم لمناقشة العلاقات الثّقافيّة والمشاريع المشتركة ما بين البلدين، سيما أن المنامة هذا العام تحتفي بكونها مدينة للسّياحة الآسيويّة، وتسعى طاجيكستان للترويج لنفسها كموطن للمخطوطات والوثائق والآثار الإسلاميّة، حيث يوجد بها ثالث أكبر مكتبة في العالم من حيث محتوى المخطوطات والتي يعود أقدمها للعام 1309م، كما استقبله أيضا وزير الدولة للشؤون الخارجية في يناير الماضي، وبحث معه ملفات التعاون والتنسيق الثنائي.
الأمر الثالث خاص بالخطط التي قام الرئيس الطاجيكي بمناقشتها ودراستها أثناء المباحثات المشتركة مع جلالة العاهل المفدى وسمو رئيس الوزراء وسمو ولي العهد لتمتين أواصر العلاقات الثنائية وتفعيل ملفات التعاون الثنائي، والتي شملت ضمن ما شملت محاور التعاون الثلاثة المشار إليها سلفا، حيث تم التطرق للكثير من الملفات والقضايا ذات الاهتمام المشترك، كما تم التوقيع على ثماني مذكرات واتفاقات تعاون وتفاهم، وشملت على الجانب الاقتصادي مجالات تجنب الازدواج الضريبي وتشجيع وحماية الاستثمار والنقل الجوي والتبادل السياحي وتطوير المشاريع الصغيرة والمتوسطة، وعلى الجانب السياسي تم الاتفاق على التشاور بين وزارتي خارجية البلدين، خاصة أن الجانبين اتفقا على توسيع وتعميق المشاركات الثنائية من خلال الآليات المؤسسية القائمة، وإجراء الجولة القادمة من المشاورات في النصف الأول من عام 2015، مثلما أبرز البيان الختامي، وهو ما تم أيضا على الجانب الحضاري في مجال الثقافة والفن.
يُضاف كل ذلك بالتأكيد، مثلما أوضح البيان الختامي، إلى النتائج التي أسفرت عنها لقاءات الرئيس الطاجيكي بالمسؤولين البحرينيين ونواب مجلسي النواب والشورى وأعضاء الغرفة التجارية البحرينية، فضلا عن حضور منتدى رجال الأعمال المشترك البحريني الطاجيكي الذي شارك فيه أكثر من 350 مشارك، والذي يُنتظر أن يفتح العديد من الفرص الاستثمارية للبلدين، ويمهد لعدد كبير من المشروعات المشتركة وبما يزيد من حجم التبادلات التجارية بين البلدين في المستقبل.