الانتصار التاريخي الذي حققته أحزاب اليمين المتطرفة المناهضة لأوروبا، بالإضافة إلى حلفائها المترشحين المتشددين المستقلين، في انتخابات البرلمان الأوروبي، التي أعلنت نتائجها في 25 مايو/ آيار 2014 وشارك فيها ناخبون من 28 دولة أوروبية، على الأحزاب التقليدية اليسارية والليبرالية والوسطية، ربما يفهم منه أن غالبية ساحقة من شعوب الاتحاد الأوروبي بدأت تفقد ثقتها في الأحزاب التقليدية، التي كان الناخب الأوروبي يمنحها ثقة مطلقة بفعل تاريخها الاجتماعي والاقتصادي وتطلعه للمستقبل واعتقاده بأنها مؤهلة لتمثيل مصالحه، بحيث كانت معظم أصوات الناخبين الأوروبيين في انتخابات البرلمان الأوروبي السابقة، مقرّرةً مسبقاً لصالح الأحزاب التقليدية.
لكن أعداداً كبيرة حتى من ناخبي الطبقات الفقيرة والمتوسطة، تحولت أو تراجعت عن تأييد تلك الأحزاب على الرغم من سجلاتها الاقتصادية الجيدة ووقوفها إلى جانب قضايا حقوق الانسان، وذلك بسبب ما يقال أنها أصبحت تضلل الناس وتخرج على تقاليدها المعهودة، الأمر الذي حمل الكثير من الناس على إطلاق أصوات التخوف من مصداقيتها.
وبدت العملية الانتخابية الأخيرة للبرلمان الأوروبي وكأنها تحولت إلى عملية رد فعل قوية على الطروحات والتوجهات والبرامج المختلفة للأحزاب الرئيسية التقليدية في البرلمان، وكذلك ما قيل عن سطوة الاتحاد الأوروبي واستحواذه على كل مفاصل القرار في أوروبا، ما جعل جميع الدول المنضوية تحت رايته تفقد معظم خياراتها الداخلية إذا لم تكن كلها، مما هي فعل اختيار وتمسك بالحزب، وبذلك صارت هذه العملية الأخيرة أقرب إلى المحاسبة والانتقام من الأحزاب التي كانوا يصوتون لها في الانتخابات السابقة.
وبينما حاول زعماء الأحزاب التقليدية الأوروبية، التي تقلص عدد مقاعدها في البرلمان الأوروبي، التخفيف من وقع ما حدث، بالقول أن نتائج العملية الانتخابية الأخيرة، جاءت كتعبير عن شعور الناخب الأوروبي بالاستياء وليس بسبب فقدان الثقة أو تحوّل الناس نحو اليمين، يرى المراقبون بأن الانتصار التاريخي لتكتل أحزاب اليمين المتطرفة والمناهضة لفكرة أوروبا الموحدة، والذي جاء على حساب تكتل الأحزاب والقوى الديمقراطية والتقدمية، هو نتيجة واضحة لتحركات هذا التكتل على مستوى القارة الأوروبية برمتها، وتمكنه من كيفية إدارة الأمور وتجنب الخوض في الخطابات العنصرية التي كان يتثبث بها في الماضي، والتركيز دائماً على مسائل توفير الخدمات العامة وإعطاء الأهمية القصوى للأوضاع التي يعاني منها الفقراء والفئات المهمّشة في المجتمع، والاستفادة التامة من الأخطاء الفاضحة التي وقعت فيها الأحزاب الديمقراطية بمختلف تلاوينها. ووصلت إلى مرحلة متقدمة خلال الانتخابات الأخيرة، التي حصدت فيها القوى المتطرفة والمتشددة نسبة كبيرة جداً من مقاعد البرلمان الأوروبي البالغ عددها 751 مقعداً.
كذلك فإن هذا الانتصار الذي حققه تكتل اليمين في أوروبا، رفع من شأن الأحزاب والقوى العنصرية، المناهضة للهجرة والمتخوفة من صعود الإسلام في أوروبا، والتي تشعر بأن عليها واجب التحرك ضد فكرة الوحدة الأوروبية من أجل استعادة هيبة السيادة الوطنية والقرار الوطني، الذي تسيطر وتهيمن عليهما سلطة المفوضية العامة في الاتحاد الأوروبي.
والواقع أن العديد من المراقبين، يرون بأن أحزاب اليمين المتشددة والمتطرفة، المنتصرة في هذه الانتخابات، سوف يكون بمقدورها في الزمن القريب أن تمتلك أكبر وأقوى تكتل عنصري في أوروبا، على حساب التكتلات الأخرى، التي لاتزال تتمسك بالنمط التقليدي المألوف في الحياة السياسية والاجتماعية الأوروبية، ومن بين ما يراه هؤلاء المراقبون أن تكتل اليمين المتطرف على الرغم من عدم تمكنه من الوصول إلى السلطة في العديد من الدول الأوروبية بسبب توجهاته وتطلعاته العنصرية والشوفينية والنازية، إلا أنه يمكنه على امتداد السنوات المقبلة مضاعفة شعبيته، التي يمكن يضرب بها الرقم القياسي في أية انتخابات محلية أو أوروبية قادمة، حيث أن الفجوة بدأت تتزايد بشكل مستمر ما بين الأحزاب التقليدية وجماهيرها، بعد تاريخ من الوعود الطويلة بتحقيق «الأحلام الأوروبية» المنشودة، والتي باتت اليوم مجرد شعارات رنانة ترددها تلك الأحزاب، وتتجه هذه الشعبية نحو القوى الصاعدة على المستوى السياسي والاقتصادي.
ولا يستبعد المراقبون انعكاس صورة انتصار تكتل اليمين المتطرف في أوروبا على الأوضاع السياسية والاقتصادية السائدة اليوم في الاتحاد الأوروبي، فيقوم بعرقلة بعض المشاريع المهمة في الاتحاد، خصوصاً موضوع توحيد القارة والعملة النقدية الموحدة (اليورو) والأجواء الديمقراطية والحريات العامة وحقوق الإنسان المكرّسة في القوانين والدساتير الأوروبية المتقدمة، التي ظلت تتفاخر بها وتسبق بها دول العالم على امتداد قرنين من الزمن، الأمر الذي يتوجب أن تدركه كافة القوى السياسية الأوروبية، التي ترغب بأن يكون الاتحاد متماسكاً في سياساته المتعددة، التي تمكنه من الانتقال إلى المستقبل، والتي قد تولد الشعور لدى المواطن الأوروبي بالعيش في ظل الأمن والسلام والوئام والاستقرار.
إقرأ أيضا لـ "هاني الريس"العدد 4282 - الأربعاء 28 مايو 2014م الموافق 29 رجب 1435هـ
شكرا
شكرا على المقال
رغم الصعوبات
رغم الصعوبات والمشاكل وتعدد اللغات والثقافات التي تواجه اتحاد اوربا يبقى تماسك بلدانها المتنوعة اقوى واهم من تماسك بلدان العالم العربي المفتتة والممزقة التي مازالت تعيش تخلف القرون الوسطى ؟؟؟