العدد 4281 - الثلثاء 27 مايو 2014م الموافق 28 رجب 1435هـ

رحل وزير «التربية» فَرحلتُ عن «الصحة»... ولست نادماً على ذلك

في الجزء الثاني من حديثه لـ”الوسط الطبي”... فخرو (2/2):

غني عن القول إن البحرين تمتلك تاريخاً عريقاً على مستوى المنطقة، وتمتلك في سجلها ريادة على مختلف المجالات والأصعدة، إلا أن الحقيقة «المؤلمة» التي لا مفر منها، أن السواد الأعظم من تفاصيل هذا التاريخ وهذه الريادة لايزال حبيسة صدور صانعيهما.

طبياً، يحق للبحرين أن تفخر برصيدها الثري والممتد لسنوات وسنوات، ويحق لها أن تطالب أبناءها بأن «يسارعوا» لاستخراج ما في الصدور، والعمل على توثيق تاريخها وحفظه من الضياع.

واستكمالاً لمشروعها التوثيقي «الذاكرة الطبية»، تنشر «الوسط الطبي» الجزء الثاني والأخير، من اللقاء الموسع الذي أجرته مع وزير الصحة الأسبق الدكتور علي فخرو.

وفي اللقاء، يميط فخرو اللثام عن الأسباب والظروف التي أدت إلى انتقاله من وزارة الصحة إلى وزارة التربية والتعليم مع نهاية عقد السبعينات من القرن الماضي، لكن فخرو يؤكد، حتى بعد مرور أكثر من 3 عقود، صحة القرار الذي فاجأ البحرينيين في حينه.

وفيما يلي نص اللقاء:

* تحدثنا في الجزء الأول من اللقاء عن سلسلة إنجازاتك مع وزارة الصحة، ومن المهم أن نسأل هنا عن الإنجازات التي لم يسعفك الزمن لتحقيقها، والتي كنت تود تركها كبصمات إضافية قبل مغادرتك الوزارة.

رحلت عن وزارة الصحة دون أن تسعفني الأعوام الاثني عشر التي قضيتها فيها، لتحقيق عدد آخر من الإنجازات، من بينها بحرنة جميع الاختصاصيين الاستشاريين بنسبة 100 %، والانتقال من الأمراض السارية المنتشرة إلى الأمراض المزمنة المنتشرة، وذلك بعد أن تمكنا من القضاء على مرض الملاريا وأمراض الطفولة وتحسين حالات الولادة.

ومن المهم الإشارة إلى جملة إنجازات لم يتضمنها الجزء الأول من اللقاء، فبفضل الجهود المستمرة لتطوير العمل في مستشفى السلمانية، بدأت الناس تثق في هذا المستشفى، بما في ذلك «كبار القوم» الذين كانوا قد بدأوا في التردد عليه، ووصل الأمر إلى وصول رسالة لنا من قبل مستشفى الإرسالية الأمريكية، يتحدث فيها عن نية إغلاق المستشفى بسبب تراجع عدد مرضاه ومراجعيه، وكان هذا في نهاية عقد السبعينات... حتى تدخل سمو الأمير الراحل الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة لمساعدتهم مالياً والحؤول دون إغلاق المستشفى.

ليس هذا فحسب، فمع تحسن خدمات الطب العام، بدأ الطب الخاص يضعف، وهي نتيجة تبدو منطقية... وكان لسان حال الناس «لماذا أذهب للطب الخاص وعندي السلمانية والمراكز الصحية؟».

فقد أدخلنا - ضمن عملية التطوير والتنظيم - نظام المواعيد الذي لم يكن موجوداً في السابق، وشخصياً عندما كنت أمارس الطب وأعطي موعداً لامرأة بحرينية من الأرياف بعد 6 أشهر، فإنها تلتزم وتأتي في اليوم والساعة المحددين، وهو أمر يدلل على أن البحريني جاهز تماماً لأي تطوير، وجاهز لأن يتعامل معك كطبيب شريطة أن تحترمه.

وبالنسبة لمستشفى النعيم - وهو بالمناسبة موضوع أخجل من ذكره - إذ كانت العيادة اليومية عبارة عن طاولة حولها 9 أطباء أجانب... يدخل المرضى وكلهم وقوفاً فيما الطبيب جالس ويسأل المريض عن مرضه، فيجيب ليصرف له الدواء... كل هذا يحدث على الملأ، فلا وجود لأية خصوصية أو أسرار، وحتى إن أراد الطبيب فحص المريض فإن ذلك يتم على مرأى ومسمع الجميع من أطباء ومرضى.

ولا أنسى في حديثي هذا أن أشير إلى مستشفى الطب النفسي بوصفه أحد أهم إنجازاتنا، فوقتها كانت الناس تطلق عليه تسمية «مستشفى المجانين» وكانوا لا يعرفونه إلا بهذا الاسم.

في هذا المستشفى كانوا يربطون المرضى ويضعونهم في غرف صغيرة خالية من أي شيء إلا من أرضيتها الأسمنتية الصلبة، وكانت أشبه بمعتقلات، وبمجرد مجيئي لوزارة الصحة قلبناه رأساً على عقب وأسميناه في البداية مستشفى الأمراض النفسية.

لم تكن العملية تغيير اسم فقط، بل تغيير طال المضمون والإجراءات، والأطباء والممرضين النفسيين، وبعد ذلك تمت توسعته بتبرع من عائلة المؤيد، وأعتقد أن عملنا هذا يكتسب أهميته البالغة حين نعرف أن المرض النفسي كان يُنظر له في ذلك الوقت بوصفه عيباً.

* في ظل كل هذه الإنجازات، يطرح السؤال التالي نفسه: لماذا ترك فخرو وزارة الصحة؟

ما حصل أنني كنت آنذاك أعمل بنظام تبادلي مع وزير التربية والتعليم الأسبق المرحوم الشيخ عبدالعزيز بن محمد آل خليفة، وبموجب ذلك كان كل منا يحل محل الآخر لإدارة أمور الوزارة في حال الغياب في العطل، فأنا أدير وزارة التربية والتعليم حين يغيب ويدير هو وزارة الصحة في فترات عدم تواجدي.

* هل كان ذلك يتم بصور رسمية؟ بمعنى، هل كنت تشغل منصب نائب وزير التربية والتعليم؟

لا، ولكن كان الترتيب يتم على أساس تغطية كل منا لمكان الآخر في حال الغياب لأي سبب، فلما توفي الشيخ عبدالعزيز رحمه الله نهاية العام 1980م، طلب مني سمو رئيس الوزراء الشيخ خليفة بن سلمان آل خليفة أن أدير الوزارتين على اعتبار درايتي بأمور وشئون وزارة التربية والتعليم... استمر الأمر لمدة 9 أشهر كاملة وبعدها بدأت أشعر بالعبء، فوزارتان في ذلك الوقت تعادلان نصف حكومة البحرين.

وفي ضوء ذلك، توجهت لرئيس الوزراء وأعلمته بأن وزيراً واحداً لا يستطيع تحمل عبء الوزارتين، فكلتاهما تتضمنان ما يكفي من المشاكل والقضايا، وكلتاهما بحاجة لإصلاح مستمر.

فسألني رئيس الوزراء في حينه عن اختياري، فأجبت مباشرةً: وزارة التربية والتعليم!

وأذكر أن سموه قال لي لحظتها: علي.. «شتبي بهالسالفة؟! صار لك 12 سنة وإنت تعمل لترتيب وزارة الصحة وتطويرها...».

وكان ردي: أعتقد أنني وضعت الأسس لوزارة الصحة، لذا فإن «التحدي» انتهى، وبمقدور أي وزير جديد أن يسير على الأسس التي وضعت ليمضي بالوزارة وفق تطلعات الحكومة والناس، فمع وجود حزمة المشروعات والبرامج المتحققة والتي تشمل (المراكز الصحية، المستشفيات، الطب الوقائي، الطب العلاجي، تدريب البحرينيين، كلية العلوم الصحية وبعدها كلية الطب، البعثات.. الخ) فإن الأمور تبدو مستقرة داخل الوزارة ولا خوف عليها حتى مع تبدل وزرائها.

وأضفت في حديثي مع سمو رئيس الوزراء: أرغب في خوض تحدٍّ جديد، وأعتقد أنه موجود في وزارة التربية والتعليم، فشرّفني وقال: خذها!

* وهل أنت مقتنع - اليوم - بصحة قرارك هذا؟

نعم، ولا أندم على ذلك أبداً.

* هل سارت أمور الوزارة وفق ما كنت تأمل؟ ألم يخالجك شعور بأن تركك لوزارة الصحة كان «تركاً» للبحرينيين؟

لا أود الحديث عن واقع وزارة الصحة بعد مغادرتي لها، ففي جميع الأحوال فإني أرى أن جميع من جاء بعدي اجتهد كما اجتهدت، وكما نعرف فإن المرء قد يوفق في اجتهاده وقد لا يوفق.

* بين «الصحة» و«التربية» وبقية المناصب لاحقاً... أين وجد فخرو ذاته؟

للإجابة على هذا السؤال، يتوجب عليّ الحديث عن فلسفتي في الحياة، والتي تنظر للصحة على أنها أهم ركن من أركان الحياة بالنسبة للفرد، ويبدو هذا منطقياً لأبعد الحدود، فالإنسان المريض لن ينفعه المال ولا المركز ولا أي شيء آخر.

أما على صعيد المجتمعات، فإن ركن «التربية والتعليم» يأتي في الصدارة، فمن دونه تتدهور الصحة والخدمات، ويتضرر الاقتصاد... فجميع ذلك يحتاج لقوى واعية متعلمة مثقفة وقادرة على أن تقود مجتمعاتها.

وفي حقيقة الأمر، فإن اهتمامي بالتعليم كان سابقاً لمجيئي لوزارة التربية والتعليم، فعندما كنت وزيراً للصحة كان الجزء الكبير من الجهود موجهاً للتعليم والتدريب، وهذا يتضح من خلال إنشاء كلية العلوم الصحية، وتنفيذ برنامج طبيب العائلة والبعثات ثم إنشاء كلية الطب، وكل ذلك تربية وتعليم، وهو يؤكد أن لجوانب التعليم والتدريب والتطوير غلبتها وأولويتها في أي موقع أتواجد فيه.

* هذا يعني أن هاجس التعليم كان مسيطراً عليك وأنت في «الصحة»؟

نعم، فأنا على الصعيد الشخصي أميل نحو التعليم، وكنت قد سئلت في وقت سابق هذا السؤال: لو لم تكن طبيباً ماذا كنت تريد أن تكون؟ وكان جوابي: أريد أن أصبح معلماً!

نعم، لو لم أكن طبيباً لرغبت أن أكون معلماً، ودافعي من وراء ذلك انبهاري بمهنة التعليم، فأنت هنا تصنع الإنسان... في الصحة تعطيه صحته لكنك لا تكوّنه كإنسان سوي... لا تكوّن عقله ولا نفسيته أو روحه... لا تكوّن توجهاته في هذه الدنيا.

* أشرت إلى أن معركتك في وزارة التربية والتعليم كانت مع المحسوبية والواسطة، فمع ماذا/من كانت معركتك في «الصحة»؟

في «الصحة» كانت المعركة مع العقلية الطبية المتأخرة، والمشكلة أنها كانت عند الأطباء الأجانب، بما في ذلك الأطباء الإنجليز الذين كانوا متواجدين في تلك الفترة، والذين كانت عقلياتهم عقليات علاجية، ينظرون للإنسان كمرض لا كإنسان تؤثر فيه مجموعة عوامل بما في ذلك فيه العامل المعيشي، فالفقر - مثلاً - يؤدي إلى المرض، وتحتاج أن تنظر إليه كطبيب وتأخذه بعين الاعتبار، وكذلك الجانب النفسي قد يؤدي للمرض ويجب عليك أن تنتبه إليه.

* في إطار عملية المراجعة، هل «يعترف» فخرو بأخطاء معينة ارتكبها خلال مسيرته مع وزارة الصحة؟

أحاول أن أتذكر، وأتمنى لو أتذكر... قد يكون أحد الأخطاء أنني كنت مطالباً بتغيير بعض الأسماء، وعذري أنني لا أحبذ جرح الناس، وأحاول جهدي منحهم أكثر من فرصة.

* البحرينيون كانوا يتمنون استمرارك في الصحة... هل هذا الكلام سليم؟

أعتقد ذلك وأعتز به، فرضا الله سبحانه وتعالى مرتبط برضا الناس.

* لو أجرينا استبانة لتقصي رأي الناس في مسألة تركك وزارة الصحة، فهل تعتقد أنهم سيكونون راضين عن ذلك؟

اسألهم، وبصورة عامة فأنا أعتقد أن استمراري في «الصحة» كان سيسهم في استمرارية تنميتها وتطويرها إلى مستويات كنت أسعى لها وكانت تحتاج لوقت أطول لتحقيقها.

* صفة «الأنسنة» ظاهرة وبقوة في شخصية الدكتور فخرو، فهل كان للطب دور في ذلك؟

القضية ليست قضية طب، بل هي قضية ثقافة سابقة لدخولي هذا العالم أو المجال، فمنذ كنت صغيراً كانت المكتبة حاضرة في بيت جدي المرحوم الحاج يوسف فخرو وفيها المجلات المصرية آنذاك (المقطم، الهلال.. وغيرهما).. كان أخوالي يضعونها في مكان محدد، وكنت أحرص يومياً على قراءتها، وغلبت على ميولي قراءة الفلسفة المثالية والأفكار لأمثال جبران خليل جبران، المتنبي، ميخائيل نعيمة، والفلاسفة اليونانيين، والكثير من الكتاب المثاليين العرب وغير العرب.

وبجانب ذلك كنت ميالاً لقراءة القصص الزاخرة بالعبر وكنت شديد التأثر بها، وفي الوقت نفسه كنت ملتزماً بالقرآن الكريم، وهو كنز القيم الإنسانية الكبرى وعلى الأخص القسط والميزان... درسته وعمري 9 سنوات وتعلمت قراءته في بضعة شهور.

من يتمعن في كل ما ذكر، يدرك حجم «الخلفية الحساسة» للقيم التي كانت لصيقة شخصيتي منذ البدايات، والتي أثرت فيَّ كثيراً بقضايا من قبيل العدالة الفضيلة والصدق والالتزام تجاه حاجات الآخرين.

* إذاً، هنالك مجموعة قيم أطرت شخصيتك؟

نعم، وأذكر في هذا السياق جزءاً من مناقشاتي مع أساتذتي في الطب والتي كنت أؤكد فيها على وجود خطأ في تعليم الطب، وتفاصيل ذلك تتمثل في أن الطبيب يجب ألا تنحصر دراسته في الطب وحسب، وإنما يتوجب عليه أن يدرس ما يسمى «Lebral education»، وهو عنوان يشمل مجموعة معارف وعلوم بما في ذلك التاريخ والفلسفة وعلوم الاجتماع، فالطبيب عندما يتعامل مع الفرد فإنه يتعامل مع كل هذه الجوانب في ذات الإنسان.

وأبعد من ذلك، ذهبت في مناقشاتي للمطالبة بتحويل مزيج العلوم هذا إلى مقرر أو مادة تدرس في كل كليات الطب طوال فترة دراسة الطب حتى إذا تخرج الطبيب يكون مثقفاً ثقافة إنسانية، تعكس نفسها على مستوى ونوعية خدماته.

وكمثالٍ مؤثر، يُؤكَّد على ضرورة أن يكون الطبيب قارئاً نهماً.. حين كنت مع أستاذي في الولايات المتحدة وهو الدكتور «تنسلي هرسون» رحمه الله، وقد سهرنا ذات ليلة في مكان بعيد عن مكان السكن، وأذكر أننا سهرنا للساعة 12، اتجه كل منا بعدها لغرفته لكي ينام، وفي اليوم الثاني كنت أسأله كيف كان نومك؟ فأجاب: أنا نمت الساعة 2، لأتساءل باستغراب: لماذا؟ هل لديك قلق يمنعك من النوم؟ فقال: لا، ولكني لا أنام قبل أن أقرأ ساعتين!

هذا الحوار ترسخ في ذهني تماماً، وكنت أشعر بخجل - وأنا هنا أتحدث عن حقلي - أن هنالك دواءً جديداً أو اكتشافاً جديداً وأنا لا أعلم عنه، وكنت أعتبر ذلك عيباً كبيراً، بل جريمة بحق المريض الذي يراجعني، فهذا يعني أنني حرمت مريضي من اكتشاف جديد وقد يموت بسبب عدم انتباهي لهذا الأمر.

لم تكن هذه القضية بسيطة في حياتي كطبيب.. وكان أستاذي هرسون يخاطبني: يا دكتور علي، الطبيب الذي لا يحمل همومه، هموم المستشفى وهموم العيادة إلى البيت ليس بطبيب، هذا الطبيب يتوجب عليه أن يذهب إلى البيت وهو مهموم!

* بالحديث عن أستاذك الدكتور هرسون، هل يمكن الحديث عن النموذج والقدوة في حياة الدكتور علي فخرو ممن كان لهم دور في حياتك كطبيب؟

ليس مناسباً أن أذكر البعض وأنسى البعض الآخر... لكني أذكر أن في الجامعة الأميركية - في كلية الطب - كان هنالك 5 أساتذة أطباء متميزين، إذ لم تكن الكلية تسمح لأي مدرس أن يمارس التعليم دون أن يكون على مستوى عالٍ.. وكنا نشعر أن هنالك تسابقاً من أولئك الأطباء على من يعرف أكثر ومن يدرّب أفضل، فكانوا أمثلة لنا في تعليم الطب وممارسته.

* وماذا عن النشأة منذ أيام الطفولة، هل كان للبيت دور في صياغة شخصيتك؟

طبعاً، فوالدي رحمه الله كان دمث الأخلاق، وبجانب شخصيته المحافظة إلى حد ما، فقد كان ملتزماً بقيم الصدق وعدم الغش ومساعدة المحتاجين، وبصورة عامة نشأت في عائلة كبيرة ملتزمة بالكثير من القيم الطيبة.

* وهل تعتقد أن هذه القضايا الإنسانية حاضرة لدى الطبيب البحريني؟

عليك أن تسأل المرضى، فالحكم لهم، لكن بصورة عامة علينا أن ننتبه إلى أن البشر والقيم يمرون في حالة تغيرات كبرى، بعضها تغيرات سلبية.

* هل نحن نعني بحديثنا هذا، الاتهام الموجه لبعض الأطباء بالجشع؟

دعني أخبرك التالي، نحتاج أن نكون حذرين في توجيه مثل هذا الاتهام أو الحكم، فالإنسان ابن بيئته، وإذا أردت أن أستشهد بمثال فسأتحدث عن ذاتي وعن البيئة التي أنا ابنها.

ففي الفترة التي كنت فيها متواجداً في بيروت بغرض الدراسة في الجامعة الأميركية، تأثرت شخصيتي كثيراً بالأجواء المحيطة هناك، فكنت عضواً في «العروة الوثقى» المعروف عنها حلمها بآمال كبيرة للأمة العربية، ودخلت آنذاك حزب البعث الذي كان في بدايته أنظف حزب، والذي يؤمن بالوحدة العربية ويؤمن بالإنسان والتقدمية والعدالة الاجتماعية.

علاوة على كل ذلك، كنت أدرس الثقافة الليبرالية العامة على يد أحد الأساتذة، وهي مادة تشمل الفكر الإنساني بدءاً من العصر اليوناني وصولاً للعصر الحديث.. أتذكر اليوم هذا الأستاذ وكيف كان مبهراً وهو يتحدث، وبشكل عام فإن الجامعة الأميركية كانت زاخرة بالأساتذة «المُلهمين»... وباختصار فأنا ابن ذلك الوقت، ولو ذهبت للجامعة نفسها اليوم ستجد أن كل ذلك تغير ولم تعد كما كانت.

وبالعودة للطبيب البحريني واتهامه بالجشع، فإنني أرد على ذلك بالقول إنّ مطالبة الطبيب بأن يضحّي بمستواه ومستوى عائلته المعيشي يعبر عن مطلب غير موضوعي وغير منصف أبداً، وليس لأحد الحق في أن يطالب بذلك، لكن مع ذلك فالوسطية مع الالتزام بالقيم الإنسانية في ممارسة الطب يجب أن يسودا.

هنا يجرنا الحديث للإشارة إلى إنجاز آخر من إنجازاتنا في وزارة الصحة، ففي تلك الفترة أدخلنا الطب الخاص المحدود، والسبب في ذلك أن رواتب الأطباء آنذاك لم تكن تكفي... فالتقيت بالأطباء الاختصاصيين ووضعتهم في الصورة وبشفافية تامة أخبرتهم أن الوزارة لا تستطيع أن تدفع لكم أكثر، وكبديل ذلك اقترحت عليهم تطبيق نظام الطب الخاص المحدود.

تفاهمت مع الأطباء على أساس عملهم في الأسبوع لمدة تتراوح ما بين 12 و18 ساعة عصراً، بحيث نعفيهم من دفع الإيجار الشهري ورواتب الممرضات اللائي يتقاضين أجورهن من وزارة الصحة، مقابل أن نأخذ جزءاً صغيراً من الدخل كخدمات إدارية وما يتبقى يأخذه الطبيب.. طبّقنا ذلك فتحسّنت أوضاع الأطباء المعيشية من دون الإضرار بالخدمات الطبية لعموم شعب البحرين.

* جملة من الألقاب تسبق اسم الدكتور علي فخرو، من بينها الطبيب، الكاتب، المفكر، السياسي، أيهما تفضل وأيهما أقرب لقلبك؟

لازلت أفضّل الطبيب... إنها في قلب قيم الرحمة والحب والإغاثة وخدمة الإنسان في أعز ما يملك، صحته.

* وما علاقتك حالياً بالطب؟

لا وجود لهذه العلاقة رغم أن دراسة الطب تطلبت مني 12 عاماً، وعملياً عملت طبيباً لمدة 4 سنوات بعد عودتي من أميركا، لكن بعد أن توليت مسئولية وزارة الصحة بدأت أتساءل: كيف لشخص يؤمن بأن على أي طبيب أن يقرأ يومياً ما لا يقل عن ساعتين في تخصصه وهو وزير ليس لديه الوقت ليفعل ذلك؟

على إثر ذلك دخلت في محنة داخلية، هل أختار الطب أم وزارة الصحة؟ أنت كطبيب تعالج الأفراد وتساعدهم على التشافي، إنما أنت كوزير صحة تؤثر على المجموع بكامله، فأيهما تفضل؟

هنا إنجاز شخصي، وهناك إنجاز عام، ولن أختار على الإنجاز العام بدلاً.

* بصورة أو بأخرى، أليست هنالك علاقة مع الطب حالياً ولو على مستوى الكتابة؟

كما ذكرت لك، فبعد أن تركت وزارة الصحة لصالح وزارة التربية والتعليم بدأت في الابتعاد عن الطب شيئاً فشيئاً، ومع ذلك فإني أتابع الأوضاع الصحية في العالم، وأقرأ بين الحين والآخر، لكن الطب يتطور بسرعة مذهلة وعلى الطبيب الذي يريد أن يمارس المهنة أن يبقى على صلة دائمة بالمستجدات، وإلا فإن المريض سيكون الخاسر الأكبر.

قراءاتي لم تنقطع، فأنت كوزير تحتاج في خضم مسئولياتك لأن تقرأ، وأنا أعتقد أن الوزير الذي لا يقرأ في عصرنا الحالي لا يستطيع القيام بكامل مهماته.

مثلاً، «التهمت» نحو 500 كتاب ومخطوطة عند انتقالي من وزارة الصحة لوزارة التربية والتعليم... كنتُ ملزماً حينها لذلك؛ لكي أكون على بيّنة ودراية بحقل التربية، فالقيادة تحتاج أن يكون القائد في مستوى علمي وإدراكي لا يقل عن مستوى الذين يعملون معه، إنه أمر صعب، ولكن هذا قدر كل قائد يريد أن يملأ كرسيه.

العدد 4281 - الثلثاء 27 مايو 2014م الموافق 28 رجب 1435هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً