كتب الشاعر الراحل محمود درويش، في رثاء المفكِّر الأميركي الفلسطيني الراحل إدوارد سعيد قائلاً: «لا أستطيع أن أودّع إدوارد سعيد، من فرْط ما هو حاضرٌ فينا وفي العالم، ومن فرط ما هو حيٌّ. ضميرنا وسفيرنا إلى الوعي الإنساني سئم، من الصراع العبثي الطويل مع الموت. لكنه لم يسأم من مقاومة النظام العالمي الجديد، دفاعاً عن العدالة، وعن النزعة الإنسانية، وعن المشترك بين الثقافات والحضارات».

حين كتب سعيد عن «خيانة المثقفين» لم يكتب من وحي تردّي الأوضاع العربية عموماً، والنكوص الذي يمتد من الماء إلى الماء. كل ذلك يوحي بنشوء خيانات متعدّدة تطول بعض الواجهات الثقافية والفنية والسياسية والاقتصادية، والمثقفون ليسوا حصراً؛ لكن أثر خيانتهم بالغ ومُكلف ومُوجع، لأنهم يعطون للمسارات المنحرفة شكلاً من أشكال التبرير «الذي يكاد يكون مقنعاً» ولمن؟ للذين لا تعنيهم المراجعات، ولا يعنيهم استجواب ومساءلة الواقع المنحرف والمُهدّد فيه الإنسان بالسقوط والاضمحلال، قبل سقوط واضمحلال ما أنجزوه، وما أبدعوه؛ إذ في ظل أوضاع كتلك لا قيمة لكل ذلك حين يبلغ التشوّه في الحياة ذروته، بحيث لا شيء يدل عليها، وبحيث يصل بالحياة إلى الحدود المغلقة.

في كتابه «خيانة المثقفين»، لا تبرز وتهيمن فقط الأسئلة بشأن العلاقة الملتبسة بين المثقف ومحيطه. لا تبحث في الأثر العميق للتحولات التي ينتج عنها إقصاء دور النخب، على يد الأنظمة المستبدة فحسب؛ إذ تبرز أدوار أولئك المثقفين في تعميق فساد ورخاوة وهشاشة المحيط الذي من المفترض أن يكونوا هم أحد أسباب قوته وصلابته وقدرته على مواجهة كل محاولات اختراق ذلك المحيط ببشره والقيم التي شكّلها ويشكّلها.

في التحولات العربية التي شهدها العالم العربي، حضرت الخيانات تلك في صورها الفاقعة. لم يعد الأمر ملتبساً في الاصطفاف غير المشروط الذي أبْدَته بعض النُخب من المثقفين. وهي خياناتٌ لا تعني بالضرورة أن يكون سبقها قبض ثمن من بعض أولئك، بما يقطع طريق عودتهم، وإحراق الجسور التي يمكن أن توصلهم بالقواعد التي منها بدأوا وانطلقوا وتشكّل وعيهم الأول، وأسهموا في تراكم جزء من ذلك الوعي في مراحل ما.

والمُعاين أن «القبض» تم؛ إذ لكل شيء ثمنه في التحولات التي شهدناها من تونس إلى اليمن، وصارت المزايدات من قبل بعض «المثقفين» سِمةً وسلوكاً يُكمل ويذهب إلى ما بعد الاصطفاف ذاك، في تشويه وتزوير حقيقة ما يجري من جهة، وثناء على البطش ودعوة إلى مضاعفته وجعله نمط حياة؛ ماداموا هم بمنأى عنه ومن هم على شاكلتهم ولو كانوا خارج تصنيف النخب!

قدّم سعيد في كتابه ثقافة معرفية على نقيض المعرفة القسرية، بتتبّعه لإنتاج كبير في فضاء العالم الذي تحرّك وارتبط به، سواءً في الأوساط الأكاديمية؛ أو تلك التي كانت جزءاً من الثقافة، أثراً وتأثيراً، دفعاً أو خذلاناً ونكوصاً، ليس على مستوى الأفكار التي ربما لم يمسسْها سوء، ولكن يتبدّى ذلك على مستوى المواقف التي لا تعطي لتلك الأفكار قيمةً وخصوصاً بانتهاء اللبس في تلك المواقف.

ثمة من سيقرأ تلك الخيانة من زاويته، ومواقع الاصطفاف الذي هو إلى جانبه، وثمة من سيكتفي بالفرْجة وانتظار اتضاح المصائر كي يحدّد مع من سيكون اصطفافه. وفي الحياد كما يرى بعضهم، وهم بالنجاة من الخضوع إلى مثل تلك التصنيفات والقراءات التي لا تتحرّى تصفية حسابات، بقدر ما تتحرى تصفية الواقع مما علق به من تلوث تلك المواقف والمراوغة في الأفكار التي تتناول الواقع القائم، تبريراً لانحرافه وفساده، وهيمنة الاستبداد على مفاصله، والتماهي مع توجهاته.

في «ضمير» المثقف «المريض»، لا تحتاج إلى أن تنسبه إلى جغرافية كي تتجنّب ما سينتج عن ذلك المرض من أوبئة وكوارث. ثمة عالم سيطوله أذى ذلك المرض وإن فصلته عنه قارات ومحيطات. وفي الداخل تكون النتائج عصيّة على الحصر؛ لكنها منبع العلّة والفساد!

في الفرْجة. في الحياد خيانة أحياناً؛ وخصوصاً في اللحظات الفاصلة من حاضر الأمة! وأخطر أنواع الحياد ذلك الذي ينتخبه بعض المثقفين هروباً من كُلف الدور، وصريح المواجهة!