العدد 4277 - الجمعة 23 مايو 2014م الموافق 24 رجب 1435هـ

أرشيف حضارة دلمون: سيرة البحث عن الجذور

منذ سنوات طويلة وأنا أحاول أن أجمع أرشيف حضارتي دلمون وتايلوس المتناثر الذي يجب أن يُجمع ليكون أساساً لكتابة تاريخ البحرين القديم بصورة دقيقة. وخلال سنوات البحث تلك، تمكنت من جمع أكثر من 600 عنوان أساسي، ما بين كتب ودراسات وتقارير ورسائل دكتوراه وماجستير. ويضاف إلى هذه العناوين الأساسية، مئات الدراسات الثانوية المساندة، وهي الدراسات التي تتناول الحضارات المعاصرة لكل من حضارتي دلمون وتايلوس، أي أنها لا تتناول حضارتي دلمون وتايلوس بصورة مباشرة بل تتطرق لها على سبيل المقارنة.

وعلى مدى سنوات عدة خصصت صحيفة «الوسط» مساحة ينشر فيها مقالات متنوعة حول تراث وتاريخ البحرين، وقد قدمنا من خلالها أكثر من 70 مقالاً حول تاريخ حضارتي دلمون وتايلوس موزعة في أربع مجموعات تناولت: تطور المجتمع البحريني من دلمون إلى البحرين، والجذور أو البحث عن هوية دلمون، وتاريخ الحقبة الهلنستية في البحرين، وتاريخ الديانة المسيحية في البحرين. وفي هذه المقالات حاولنا إعادة إنتاج أهم نتائج الدراسات الحديثة التي تناولت حضارتي دلمون وتايلوس، وبالخصوص تلك الدراسات التي تبحث في الجذور الأولية لهويات تلك الحضارات.

صراع النظريات القديمة والحديثة

بعد عملية جمع الدراسات المختلفة، قمت بتصنيفها في ثلاث مجموعات أساسية بحسب الترتيب الزمني، وهي: الدراسات القديمة، والدراسات المتوسطة، والدراسات الحديثة. أما الدراسات القديمة التي تناولت تاريخ البحرين القديم فقد بدأت منذ العام 1890 وحتى بداية الخمسينيات من القرن العشرين. وقد تميزت هذه الدراسات بوصف دلمون على أنها مقبرة للسومريين أو سكان شرق الجزيرة العربية، وكذلك، تم الربط في هذه الدراسات بين الدلمونيين والفينيقيين. أما الدراسات المتوسطة فهي الدراسات التي بدأت مع بداية عمل البعثة الدنماركية بالتنقيب في المواقع الأثرية في البحرين وذلك في خمسينيات القرن المنصرم وحتى نهاية السبعينيات. ويمكن تقسيم دراسات هذه الفترة إلى نوعين من الدراسات، دراسات تعيد إنتاج الفرضيات القديمة، ودراسات تعتمد على نتائج التنقيب الآثاري الحديثة.

أما الدراسات الحديثة فقد بدأت منذ الثمانينيات، وهذه الدراسات الحديثة ترجح نظريات معينة من الحقب القديمة وتستثني فرضيات أخرى؛ وذلك بحسب النتائج التي تم تحصيلها عن طريق تحليل الاكتشافات الأثرية الحديثة. غالبية النظريات الحديثة تم التوافق عليها وأصبحت حقائق علمية بحسب المعطيات الحالية، وهي نظريات قابلة للنقد والتغيير في حال ظهرت نتائج جديدة. يذكر، أن هناك تعارض جوهري بين النظريات الحديثة وبعض الفرضيات القديمة؛ فمن تلك الفرضيات القديمة ما يلغي وجود هوية حضارية لثقافة دلمون، بينما الدراسات الحديثة تؤكد على وجود هوية واضحة لحضارة دلمون؛ فالصراع، إذاً، ليس بين القديم والحديث وإنما الصراع من أجل إثبات الهوية.

النظريات القديمة والهوية الفينيقية

تعود فكرة الربط بين البحرين والفينيقيين إلى (سترابو Strabo 63 ق. م. - 23م) مؤلف كتاب الجغرافية الذي ربط تايلوس وأرادوس بالفينيقيين. وتايلوس (Tylos) هو الاسم الذي أعطاه اليونانيون لجزيرة البحرين الكبرى وهذا ثابت بالدليل القاطع حيث تم العثور على نقش عليه اسم «تايلوس» يعود تاريخه للفترة (142ق. م - 115ق. م) (Gatier et al 2002). وينفرد الكاتب اليوناني سترابو بذكر اسم تايلوس محرفاً فقد ذكره بالراء بدلاً من اللام أي «تايروس»:

«إٍذا أبحرنا إٍلى ما هو أبعد، نصل إٍلى جزيرتين أخريين، أقصد تايروس وأرادوس، توجد فيهما معابد مثل معابد الفينيقيين. ويؤكّد أهالي الجزيرتين في الحد الأدنى، أن جزر الفينيقيين ومدنهم، التي تحمل الاسم ذاته هي مستوطناتهم الخاصة ذاتها (جغرفية 4/3/16) (بوتس 2003, ج2 ص 852).

ليس من قبيل الصدفة أن يذكر سترابو اسم تايلوس محرفاً فالبعض يرى أنه أدخل صيغة مختلفة لاسم تايلوس وجعلها «تايروس»، وذلك لربط الجزيرتين بالمدن الفينيقية في لبنان وسورية «تايروس» و «أرادوس»، والتي اختزلت بعد ذلك في الاسمين Tyre وArvad أي مدينتي صور وأرواد (Bowersock 1986). وبذلك أحيا سترابو قضية طرحها قبله هيروداتوس (484 ق. م. - 425 ق. م.)، تتضمن أن الفينيقيين يزعمون أن أصلهم من البحر الأرثري (أو البحر الأحمر وهو اسم الخليج العربي عند اليونانيين)، قبل أن يهاجروا إلى البحر المتوسط مارين عبر بلاد الشام، وظلت هذه المقاطع مدة طويلة تسترعي انتباه الرحالة والآثاريين والمؤرخين حتى تلاشت مع الزمن (بوتس 2003. ج2 ص 852 - 872).

وهناك من طور من تلك الفرضية لاحقاً؛ حيث افترض Bent أن تلال القبور في البحرين هي من بناء الفينيقيين (Bent 1890)؛ وبالتالي ما عادت هناك هوية دلمونية قائمة بذاتها، بل هناك هوية فينيقية. وفي العام 1929م عدل Mackay من تلك الفرضية، واقترح أن المدفونين في تلال المقابر هم من الجزيرة العربية؛ حيث إنه لا يوجد آثار لأماكن سكنى في البحرين معاصرة لتاريخ بناء تلك القبور (Mackay 1929).

باختصار، كان الاعتقاد السائد أن دلمون البحرين لم تكن حضارة بل كانت مقبرة كبيرة. وهذه النظرة لم تتغير إلا بقدوم البعثة الدنماركية في بداية الخمسينيات والتي تبنت فكرة أن تلك القبور من بناء شعب له هوية وثقافة محلية؛ حيث تم الكشف عن مناطق السكنى القديمة لتلك الشعوب في موقع رأس القلعة، وقد تبنى Bibby فكرة أن تلك القبور من بناء الدلمونيين (Bibby 1970, p. 146). وعلى الرغم من ذلك، بقي البعض متشبثاً بالفرضيات القديمة؛ ففي العام 1982م أعاد Lamberg-Karlovsky فرضية أن دلمون كانت مقبرة، وقد قام Lamberg-Karlovsky بدمج الأساطير مع تلك الفرضيات السابقة، ثم بلور فرضيته التي تنص أن البحرين، وحتى شرق الجزيرة العربية، كانت مقبرة للسومريين أو بلاد الرافدين بصورة عامة، وأن دلمون البحرين اكتسبت أهميتها كونها أرضاً مباركة يدفن فيها الموتى (Lamberg-Karlovsky 1982). وقد لاقت فرضية Lamberg-Karlovsky رواجاً كبيراً في بادئ الأمر، إلا أن الكشوفات الأثرية اللاحقة تثبت عكس ذلك؛ وهكذا تم تجاهل هذه الفرضية في الدراسات اللاحقة (Breuil 1999).

النظريات الحديثة في قبال رفض التجديد

في الدراسات القديمة توجد فرضيات تم استبعادها في الدراسات اللاحقة؛ فالمرجح في الدراسات الحديثة التي تناولت تاريخ دلمون أن هناك «دولة دلمون» التي تكونت في نهاية الألف الثالث قبل الميلاد وانتهت قرابة منتصف الألف الثاني قبل الميلاد (Hojlund 2007, pp. 123 - 127). هذه الدولة لها هويتها ولها ثقافتها الخاصة التي تميزها؛ وبالتالي فهناك شعب يسكن هذه الدولة وله هويته الخاصة، وهذا الشعب هم الدلمونيون، أي سكان دلمون الذين أنتجوا ثقافة ذات طابع خاص بهم، ويمكن الاستدلال عليها عن طريق اللقى الأثرية التي عثر عليها حتى الآن. وقد ظهرت دراسات حديثة بين العامين 2007م - 2011م حول تلال المقابر تكشف عن نتائج وتحليلات جديدة أدت لصياغة نظريات حديثة حول هوية المجتمع الدلموني وتقسيماته الاجتماعية والجغرافية (Hojlund 2007), (Hojlund et. al. 2008)

(Laursen 2007, 2008, 2009, 2010, 2011, 2014).

كل تلك الدراسات الحديثة تعطي تاريخاً لحضارة دلمون مغايراً لما في الدراسات القديمة. ولكن للأسف الشديد، هذه الدراسات لا يمكن الحصول عليها بصورة سهلة؛ فغالبيتها لا يباع في داخل البحرين، إضافة لثمنها الباهظ. أما ما تم توفيره في المكتبات المحلية هي تلك الكتب القديمة أو الكتب التي تعيد إنتاج تلك الفرضيات القديمة التي لا يتم نقاشها بل لا يتم حتى التطرق لها في الدراسات الحديثة؛ فقد ثبت خطأ تلك الفرضيات بصورة قطعية.

وعلى رغم وجود عدد كبير من الدراسات الحديثة التي تؤكد على وجود هوية لحضارة دلمون إلا أنه مازال هناك من يعيش بين الفرضيات القديمة التي لم يعد لها وجود؛ فلايزال البعض يعيد إنتاج تلك الفرضيات القديمة ويروج لها حتى أخذت تظهر من جديد في الصحف اليومية وعلى مواقع التواصل الاجتماعي على شبكة الإنترنت. ومن العبارات التي تتكرر في تلك المقالات التي تؤكد على إنتاج الماضي: «تلال القبور بناها الفينيقيون عندما استعمروا البحرين قديماً»، «العراقيون القدامى كانوا يدفنون موتاهم في البحرين لإيمانهم بأنها أرض الخلود»، وغيرها من المقالات والكتب الحديثة التي تتحدث عن الفينيقيين الذين حكموا البحرين قديماً أو تتحدث عن البحرين كونها «مقبرة» للسومريين وغيرهم من بلاد الرافدين. هذه فرضيات قديمة ما عادت تناقش من قبل المتخصصين في تاريخ دلمون.

التاريخ الحديث والتاريخ المتداول

مما سبق يمكننا أن نلاحظ وجود نوعين من التاريخ الذي يكتب حول دلمون، تاريخ يعتمد على النتائج الحديثة، وهو غير متاح للجميع، وتاريخ متداول بين العامة يعيد إنتاج الفرضيات القديمة. ويتميز التاريخ الذي يعتمد على الدراسات الحديثة أنه يتم نقاشه في البحوث المحكمة والكتب الأكاديمية الحديثة، والتي تكتب بأسلوب علمي ولغة أجنبية غير عربية، والتي تكون في الغالب باهظة الثمن ولا تكون متوافرة لكل المهتمين بتاريخ دلمون. وفي قبال هذا التاريخ الحديث الغير متاح يوجد تاريخ آخر لدلمون يتم تداوله، وإعادة تكراره، حتى غدا من الحقائق المسلم بها، على رغم أن هذا التاريخ المتداول اعتمد على معلومات قديمة خضع أغلبها للنقاش والتعديل وإعادة النشر بصورة علمية.

الفارق كبير بين هذين النوعين من التاريخ، فالأول، خاضع لعمليات النقاش والنقد والتمحيص والتعديل، أما الآخر فهو مجرد معلومات قديمة، تم التسليم بصحتها إلا أنه، للأسف الشديد، أصبح التاريخ الأكثر رواجاً بين العامة لكونه التاريخ الذي يتم إعادة كتابته، مراراً وتكراراً، في وسائل الإعلام المتاحة للجميع. ويبقى التاريخ الفعلي، الذي يخضع للتمحيص بصورة مستمرة، متداول بصورة شبه حصرية بين المختصين والباحثين.

للأسف الشديد هناك تقصير في توفير الدراسات التاريخية في البحرين وبالخصوص الحديثة منها، حتى أنه لا يوجد أي استغلال للتقنيات الحديثة في نشر المعلومات. فمع تطور وسائل نقل المعلومات ظهرت العديد من المواقع الإلكترونية، على الشبكة العنكبوتية، متخصصة في التاريخ القديم للحضارات المختلفة. تلك المواقع تخص مراكز أبحاث وجامعات وغيرها من المؤسسات العلمية التابعة لدول معينة والتي توفر أرشيفاً رقمياً مجاناً للدراسات التخصصية.

في هذه المواقع يمكنك العثور على مئات الدراسات العلمية المتخصصة في التاريخ القديم للحضارات القديمة في الخليج العربي وبلاد الرافدين وغيرها، ولكن نادراً ما يمكن العثور على دراسات تخص دلمون، فهذه الدراسات الأخيرة لا تقدم بصورة مجانية بل تكون باهظة الثمن.

الخلاصة

يوجد أكثر من 600 دراسة حول حضارتي دلمون وتايلوس، إلا أن غالبية هذه الدراسات غير متوافرة للعامة أو حتى المهتمين بتاريخ البحرين، وما تم توفيره في المكتبات المحلية هو تلك الدراسات القديمة أو التي تعيد إنتاج الفرضيات القديمة؛ وبذلك يبقى تاريخ دلمون المتداول هو الذي يعاد كتابته، مراراً وتكراراً، بكل ما فيه من أخطاء. وليس فقط تاريخ دلمون، بل أصبح تاريخ البحرين بأكمله يكتب بمسلمات تاريخية قديمة، منها ما هو مجرد اجتهادات أو فرضيات شخصية. وكل كاتب يكتب ما يحب أن يقرأه القراء التي توجه لهم الكتابة، فيصبح هذا التاريخ مجرد كلمات تدغدغ مشاعر القارئ وتشل عقله عن التفكير، حتى نست أو تناست العامة أن التاريخ علم يخضع للنقد والتحقيق بصورة علمية.

وفي سبيل نشر تاريخ البحرين القديم الحقيقي علينا أن نواصل البحث في جذور الهوية الدلمونية بدلاً من أن نعيد إنتاج الفرضيات القديمة، ولا سبيل إلى ذلك إلا بإنشاء أرشيف يجمع الدراسات المتخصصة حول دلمون، وحبذا أن يكون أرشيفاً رقمياً متاحاً للباحثين والمهتمين المحليين؛ وذلك لتنشيط حركة البحث في تاريخ البحرين القديم.

العدد 4277 - الجمعة 23 مايو 2014م الموافق 24 رجب 1435هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً