العدد 4276 - الخميس 22 مايو 2014م الموافق 23 رجب 1435هـ

الجوانب الأكثر عتْمة للإنسانية... "تيتوس" شكسبير ومعالجة العنف

الوسط (فضاءات) - جعفر الجمري 

تحديث: 12 مايو 2017

نعيش في زمن قاتم وخطير. مثل تلك العناوين تتضح كل يوم، ولكن تُرِك الأمر إلى المسرح ليقوم بمهمة تذكيرنا بذلك أكثر من أي وقت مضى. الفَرْق هو أن مشكلات الحياة بالنسبة إلى الذين يلجئون إلى عالم الفن، يمكن لهم في بعض الأحيان أن يحققوا تأثيراً فاعلاً ومفيداً من خلاله. أن يتجاوزوا تلك المشكلات. ذلك هو السبب في أن الحزن على خشبة المسرح يمكن أن يكون سبباً للشفاء ومدعاة له، بينما في الحياة هو مجرد حزن، الطرق إلى تجاوزه أكثر تعقيداً وكلفة.

تلك كانت في الثنايا بعض مقدّمة مراجعة مات وولف التي كتبها في صحيفة "نيويورك تايمز" يوم الخميس (15 مايو/ أيار 2014)، لعرض مسرحية "تيتوس أندرونيكوس"، على مسرح غلوب الشهير في لندن لموسم هذا الصيف، في لندن، المسرح الذي تم إنشاؤه العام 1598، وأقيم عليه العرض الأول لأكثر مسرحيات شكسبير شهرة وصيْتاً.

هنا لابد من لمحة سريعة عن المسرحية كي يتمكن القارئ من معرفة شخصياتها الرئيسة، والأدوار التي لعبتها في عمل شكسبير، على رغم تعدّد المعالجات والرؤى في تقديمها بعد قرون من كتابتها وتجسيدها الأول.

"تيتوس أندرونيكوس"، أحد الأعمال المأسوية المبكّرة للأسطورة شكسبير، تُمثل أحد القادة الرومان الخياليين، منخرط في دائرة من الانتقام مع عدوّته "تامورا"، ملكة القوطيين، المسرحية تعدّ من أكثر الأعمال اكتنازاً وازدحاماً بالدموية لشكسبير، والتي استمدّت إلهامها من أعمال سينكا "من القدماء الرومان"، وعلى رغم أن المسرحية فقدت شعبيتها في عهد الملكة فيكتوريا لدمويتها إلا أنها استجمعت شعبيتها تقريباً منذ ما قبل منتصف القرن العشرين إلا قليلاً.

المسرحيات من حيث هي رؤى فنية تحمل معالجات، وتطرح أسئلة، وفي كثير من الأحيان لا تنشغل بالإجابات، في تداعٍ نتوقعه لدى شخصياتها، لا تكون منبعاً وبؤرة أذى، وإن حدث ذلك لن يكون مثل ذلك الأذى بمستوى أذى "تيتوس" في العمل الذي يُؤدّى على "مسرح غلوب"؛ والذي سينضم إليه قريباً "أنطوني وكليوباترا" العمل/ المسرحية الأكثر عرضاً بذلك العنفوان والحيوية والوهج الذي لم يخْبُ على امتداد الزمن.

"تيتوس"، على النقيض من ذلك، هنالك نوع من التباري والاستباق من أجل النيْل حتى من التشويه والموت. يحدث ذلك في البدايات من العمل. في وقت مبكّر منه. يبدأ مع تقرير مفاده أن 22 من أبناء القائد العسكري لقوا حتفهم في القتال بروما، وهذا كله قبل أن تتضح ملامح السرد في بنية المسرحية، بالذهاب إمعاناً وتوغّلاً في الذبح والركْل والمجازر التي تمتد لتشمل الاغتصاب وتقطيع أوصال ابنة تيتوس، لافينينا، لتصل إلى تحوّل أبناء الملكة إلى خدمة القوطيين، وإعداد فطيرة في حال من الابتهاج والتي تُقدم تيتوس (يقوم بدوره وليام هيوستن) باعتباره الشيف (الطبّاخ)، آكل اللحوم الأكثر جنوناً في المعمورة كلها. وحتى "سويني تو" لم يكن مخبولاً بحيث يجاريه كما هو الحال مع دوره في "تيتوس".

في السؤال البدهي: كيف، إذن، يمكن أن تجعل مأساة مسرحية لشكسبير، قُدمت في وقت مبكّر أكثر إقبالاً وتهافتاً عليها من المسرحية التي ستليها بعد سنوات؟ وهو الشيء المختلف الذي يمكن معاينته في مسرحية "الملك لير". هل تبدو "الملك لير" وكأنها مسرحية للأطفال؟!

المخرجة لوسي بيلي تقترب في العمل من الاحتفاء وتكريم الوحشية والشعر في النص على حد سواء. يحتاج ذلك إلى قدرة استثنائية أيضاً. من دون الخيال لا معنى لأي قدرة يمكن أن تبرز وترتجل في هذا المقام، في حين تُظهر "الاستعارات" و "القفشات" التي يتم "اقتباسها" مليئة بالفكاهة.

مع ذلك، ركّزت بعض الدعاية المحيطة بالإنتاج مع مرور الوقت على عدد من الرعاة الذين تعاقبوا على العمل، ومن خلال عرض أداء واحد للمسرحية، يقال إنه وصل إلى 43 راعياً، بحيث يُسجَّل له بأنه الرقم القياسي لكل عرض حتى

الآن.

نجحت السيدة بيلي في معالجتها سابقاً لهذه العمل في مسرح غلوب الشهير العام 2006، مع "تيتوس" وذلك ما أدّى إلى هذا الظهور المتشابك والمتعدّد للعمل، وإن كان طاقم الممثلين مختلفاً.

وفي إضاءة لدور الشركات العائلية الصغيرة يلعب "الفكاهي" آلان آيكبورن بالكاد دوراً هو ما دون الرؤية المُحسّنة للجانب الخيري في ذلك العمل المليء بالدموية والوحشية، يتجاوز الدور الهامشي مع ذلك – الخيري – الذي يمكن أن يتوافر لدى "تيتوس".

تحضر الشركات العائلية الصغيرة (في النص المُعصْرن للعمل)، متساوقة مع دور آلان آيكبورن، في مدى القدرة والإمكانات؛ وحتى سعة المناورة. فمثلما تحتاج تلك الشركات إلى رؤوس أموال ضخمة وخرافية، يحتاج آيكبورن إلى فظاظة وغلاظة نفس وغياب روح كي يتمكّن من مجاراة "تيتوس".

أعداد القتلى يُعدّون على أصابع اليد الواحدة. القتلى لدى "تيتوس" والذين هو في مواجهتهم يكادون أن يسدّوا الأفقّ! وعليك أن تكون سعيداً لسماع ذلك. أتيح للمسرحية في عرضها الأول تحت إشراف المؤلف معالجة تناول جديد ومُعصْرن في العام 1987 في المسرح الوطني؛ إذ تم بعد ذلك النظر إليها على نطاق واسع على أنها نقدٌ للجشع ونقد في جانب منها للتاتشرية في تلك المرحلة من الزمن.

يعود العمل على نطاق واسع إلى المسرح نفسه، وهذه المرة يتم توجيهه من قبل آدم بينفورد، ولغة السياسة لم تعد ضرورية ومفصْلية وحاسمة لتحديد سطْوتها وقوتها ومدى تأثيرها، كي تتمكّن من إيصال قيمة تضع فواصل بين الدموية والعنف والقتل والاغتصاب، وتفاصيل الأسْر، وبين أن تتوهم إمكانية الحياة بشكل طبيعي في ظل كل تلك العتْمة والكوابيس. ما الذي تغير؟ قد تسأل. في كلمة واحدة: لاشيء، وهو ما يفسر، لماذا يتحدث آيكبورن أكثر من أي وقت مضى عن هجاء الفساد المتورط فيه الإنسان على مدى عقود وليس فقط في مكان ووقت معينين. ثمة غض طرْف عن الممارسة نفسها في زمن ومكان معينين! هل العاصمة (لندن) هي موضوع غضّ للطرْف؟ أسأل!

التركيز هنا ليس على ساحات القتال في العصور القديمة ولكنه على السطو الذي حدث من قبل الطبقات الوسطى الإنجليزية التي تم تحديد حيّزها ونطاق تحرّكها وعياً وأدواراً وتفاعلاً، وأداء من قبل الكتّاب المسرحيين لها عبر ما يقرب من 80 عملاً يؤرّخ للانحلال الأخلاقي للأُسر في الضواحي التي يُقدّر أن الجميع وبدرجة ما قد تم تصييرهم إلى التوجه نفسه؛ بالدخول في دائرة الانحلال تلك.

فصول المسرحية توحي بفناء سهْل لمرتكزات أولئك الثقافية (المصابون بالانحلال). تحضر "الكوميديا" في مزاحمة وصراع مع "الرثاء". الرثاء الذي يبدو غالباً بطبيعة العمل الذي لم يخْلُ من الدم، فيما الكوميديا كانت ساتراً وسدّاً ومانعاً من فقدان السيطرة والتحكّم في كل ذلك، على امتداد الأداء لإسدال الستار في نهاية المطاف: على الألم!

يقوم بأداء دور الأب، جاك مكراكين، الذي يضمحل أخلاقياً كما يبدو بشكل مطلق؛ حيث يذوي بشكل لا يمكن أن تغفله عين، وقد جسّد دور مايكل جامبون بشكل مذهل ورائع في العرض الأول، وأثبت نايجل ليندسي بأنه وريث جدير هذه المرة، بلعبه دور كل شخصية بشكل عميق وسط طبيعة لا مواربة فيها، ليندسي هو نفسه تجاوز ليندسي عندما ظهر كما الغول وسط موسيقى مألوفة تضج بها منطقة "ويست إند"!





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً