العدد 4275 - الأربعاء 21 مايو 2014م الموافق 22 رجب 1435هـ

الرئاسة الأولى والحكومة اللبنانية: ربط النزاع بانتظار تفاهم لبناني جديد

الوسط – المحرر السياسي 

تحديث: 12 مايو 2017

اتخذ تيار المستقبل من "ربط النزاع" عنوانًا لشراكته مع حزب الله في الحكومة الجديدة، ويقصد بذلك التحرر من الخلافات مع قوى 8 آذار لإدارة البلد دون التنازل عن مواقف 14 آذار المطالبة بضرورة انسحاب حزب الله من سوريا وأن يسلّم سلاحه للدولة اللبنانية. وستعطي المعادلة الجديدة -"ربط النزاع"- الأطراف اللبنانية فرصة لإعادة التواصل بغية حل المشاكل المحلية اللبنانية الأمنية والسياسية أو التخفيف من حدتها، وحل بعض القضايا المتصلة بالشأن السوري كقضية اللاجئين السوريين، وستُرسي المواصفات السياسية الأساسية المطلوبة لرئيس الجمهورية، حتى لو تأخر انتخابه، لأن هذه المواصفات مطلوب توفرها في برنامج الحكومة التي ستقوم مقام رئيس الجمهورية إلى حين انتخابه. وتنطوي هذه الشراكة على تعاون بين المستقبل وحزب الله في محاربة "الإرهاب" خاصة ذاك المتصل "بالمتشددين السنة"، كما أنها تسير في سياق الاعتراف بإيران شريكًا كاملاً في رعاية اتفاق الطائف وإعادة تفسيره، وستكون هذه الحقبة مرحلة "ربط نزاع" بين قوى 8 و14 آذار ورعاتهما -السعودية وإيران- لتفتح الباب أمام تفسير جديد للطائف.

وبحسب تقرير نشره مركز الجزيرة للدراسات لشفيق شقير ( باحث في مركز الجزيرة للدراسات، متخصص بالمشرق العربي والحركات الإسلامية) لا يزال لبنان غارقًا في أزماته منذ اغتيال رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري (2005)، وجاءت التطورات الإقليمية سواء في المواجهة مع إسرائيل في حرب 2006، أو انخراط أطراف لبنانية لاسيما حزب الله في الحرب السورية المستمرة حتى اللحظة لتزيد من الخلافات الداخلية سوءًا ولتظهر المزيد من العيوب التي أرساها اتفاق الطائف (1989)، الذي كان من المفترض أنه سيخفف من الطائفية (خاصة بين المسلمين والمسيحيين) تمهيدًا لإلغائها؛ فإذا به يصبح أحد العوامل التي أجّجت الصراع المذهبي بين المسلمين، وجعلت الانقسام بين السنة والشيعة هو العنوان الأبرز لأزمة لبنان الحالية.
واتخذت الحكومة السابقة، حكومة الرئيس نجيب ميقاتي مبدأ "النأي بالنفس" عمّا يجري في سوريا للتخفيف من حدة الخلاف المذهبي في لبنان إلا أن وجودها نفسه تحول إلى مسعّر لهذه الحرب، لأنها لم تحظَ بدعم "الشارع السني"، كما أن تيار المستقبل اتهمها بأنها "حكومة حزب الله" وتفتقر للتمثيل الحقيقي لسُنّة لبنان؛ فسعد الحريري -الذي وصف قبول ميقاتي ترؤس حكومة بغياب تيار المستقبل عنها بأنه "خيانة"- لم يكن يتوقع أقل من "مقاطعة سنية" ولو على مستوى منصب "رئيس الوزراء" من قبل الشخصيات الكبيرة لأية حكومة جديدة قد تتشكل بعد إسقاط حزب الله وقوى 8 آذار لحكومته، لنزع صفة "الميثاقية عنها" باعتبارها لا تمثيل حقيقيًا فيها لطائفة لبنانية أساسية، الطائفة السنية(1).
وبسبب ربط النزاع اللبناني بتطورات الوضع الميداني في سوريا وبالتالي بالإقليم وتعقيداته، شهدت الأزمة اللبنانية في عهد حكومة ميقاتي جمودًا قاتلاً حتى بات البلد وكأنه على شفير فراغ قد يُدخل لبنان في فوضى فيُنهي ما تبقى من خيط مصالحة كرّسه الطائف بين اللبنانيين، وبدا أنه من المتعذر تعيين موظفين في المراكز الشاغرة في إدارة الدولة وأجهزتها الأمنية والعسكرية، فتم التمديد لبعضهم كقائد الجيش اللبناني جان قهوجي ورئيس الأركان وليد سليمان(2)، وتم إهمال بعضهم كالمدير العام لقوى الأمن الداخلي أشرف ريفي والمحسوب على تيار المستقبل، والذي كان أحد الأسباب المباشرة التي أعلن ميقاتي استقالة حكومته بسبب عدم التمديد له(3) ، كما مدّد مجلس النواب لنفسه(4).
ولكن تشكّلت حكومة تمام سلام التي سماها "حكومة المصلحة الوطنية" في 15 فبراير/شباط 2014 إثر تغيير في مواقف أطراف الصراع اللبناني(5)، وتم الاتفاق على البيان الوزاري بعد ثلاثة أسابيع من المناقشات التي تركزت على الصياغة اللغوية حول موقف الحكومة من "سلاح المقاومة" أي: سلاح حزب الله، ومن تدخل الحزب عسكريًا في سوريا(6).
واجتمع مجلس النواب لانتخاب رئيس للجمهورية اللبنانية أكثر من مرة حتى اللحظة ودون جدوى، فتجددت المخاوف من أن يشهد هذا الموقع بدوره فراغًا، لأن الجولات الأولى من الانتخاب لم تُفضِ إلى نتيجة، وهناك خشية أن تنقضي المهلة الدستورية دون انتخاب رئيس جديد للبلاد -تنتهي المهلة في 25 مايو/أيار 2014- وهو ما يكاد يبشّر به رئيس المجلس النيابي نبيه بري(7)، لتقوم الحكومة مقامه. وفي كلتا الحالين ستتحمل الحكومة مع رئيس الجمهورية الجديد أو من دونه إذا تأخر انتخابه، عبء إدارة الأزمة اللبنانية. ويبدو أن ظروف تشكّل حكومة المصلحة الوطنية أخذت بالاعتبار كل هذه الاحتمالات، ويمكن إدراك مسار الأزمة والوجهة التي يمضي إليها أطرافها، من خلال معرفة ظروف التشكل والمعادلة الجديدة التي أرستها.

أسباب تشكّل حكومة المصلحة الوطنية

تشكّلت مجموعة من الخطوط الحمراء لدى أطراف الأزمة في لبنان، كانت تحول دون تشكيل حكومة وطنية جامعة؛ فحزب الله رأس قوى 8 آذار، كان يعتبر "الثلث المعطّل" من الثوابت التي لا يمكن التنازل عنها، وثلاثية "الشعب، الجيش، المقاومة" خطًا أحمر لا يمكن لأية حكومة أن تتجاوزه، ووصف حربه في سوريا بأنها "حرب وجود". أما المستقبل فأعلن أن "لا حكومة" مع حزب الله إلا بعد أن ينسحب من الحرب في سوريا، وأنه يرفض إعطاء الثلث المعطّل لقوى 8 آذار. ولكن رغم كل ذلك تشكّلت الحكومة بعد أن تنازل حزب الله عن الثلث المعطل في تشكيل الحكومة، وعن ذكر الثلاثية في البيان الوزاري(8)، في حين تنازل المستقبل عن شرط انسحاب الحزب من الحرب في سوريا، كما تم إغفال الإشارة لإعلان بعبدا والذي أُعلن من القصر الجمهوري وبرعاية الرئيس اللبناني ميشال سليمان ويقضي باجتناب سياسة المحاور وعدم إرسال الأسلحة والمسلحين من لبنان إلى سوريا(9).
ويبدو أن هذه النتيجة فرضتها مجموعة من العوامل التي ضغطت على الفريقين، أبرزها:

على الصعيد المحلي

الخوف من التدهور الأمني؛ فقد استهدفت تفجيرات متنقلة الضاحية الجنوبية والبقاع وطرابلس (حوالي ثمانية تفجيرات)، إضافة إلى عدة جولات اشتباكات بين منطقتي جبل محسن والتبانة (حوالي 20 جولة)، ولأول مرة يعرف لبنان هجمات انتحارية تستهدف حزب الله وبيئته الحاضنة، بسبب انخراطه عسكريًا في القتال إلى جانب النظام السوري.
•اقتراب الوضع اللبناني مما يمكن وصفه "بالحرب المذهبية الباردة" بين السنة والشيعة، مع شكوى متكررة من الطرف السني بأن الدولة ضده، لعدم وجود "من يثق به في المواقع الحكومية الحساسة، فضلاً عن الأمنية منها"؛ ما جعل تصرفات تلك الأجهزة موضع شك بالنسبة له، وتعرض في هذا السياق الجيش والأجهزة الأمنية الأخرى عدة مرات لهجمات مسلحة.

•الخوف من الفراغ في أجهزة الدولة والمواقع الدستورية فيها بشكل عام، فكل الأطراف أصبحت معنية بتجنب الفراغ وتداعياته السلبية، والتي ستكون حتمًا مدعاة للفوضى وستفتح ملف تأسيس عقد لبناني جديد بدلاً عن الطائف في وقت غير ملائم البتة(10).

•لا يحتمل الواقع اللبناني الفراغ في الحكومة اللبنانية وفي الرئاسة الأولى معًا، فوجود الأولى سيحافظ على قواعد اللعبة السياسية القائمة، لأن الحكومة ستقوم بصلاحيات الرئيس في حال عدم انتخابه، أما لو لم تتشكل الحكومة فإن الفوضى كانت ستنعكس على الحياة السياسية اللبنانية برمتها.
•العامل المسيحي الإيجابي؛ لأنه كان معنيًا بتشكيل الحكومة لتعزيز فرص انتخاب رئيس جديد للجمهورية، لذلك دفع باتجاه تشكيلها، حتى إن ميشال عون كان قد صرّح بأنه توسط بين المستقبل وحزب الله في هذا الشأن؛ فالطرف المسيحي معني بشكل خاص -وإن كان الجميع معنيًا بذلك- باستحقاق رئاسة الجمهورية باعتباره الموقع المسيحي الوحيد الأعلى في المنطقة، كما أن بقية الأطراف في كل من 14 و8 آذار لا تريد أن تبدو كالمعرقل لهذا الاستحقاق، وتدرك أن انتخاب الرئيس ولو تأخر، يحتاج لحكومة متوازنة من أطراف الصراع أنفسهم.
•العامل الاقتصادي(11)؛ حيث بلغت الأزمة الاقتصادية في لبنان الحضيض بعد تراجع مداخيل السياحة وتراجع الصناعة وتعطل الحياة التجارية، وتفاقم الكلفة المالية للاجئين السوريين المتزايدة أعدادهم، وبالتزامن مع تراجع المساعدات العربية -لأسباب عدة، منها: خروج التمثيل السني الأساسي من الحكومة- وكذلك بسبب تردي الأوضاع السياسية والأمنية في البلاد، إضافة لتعطل عمل حكومة ميقاتي نفسها بعد انطلاقتها مباشرة لخلافات بين أطرافها التي ما لبثت أن انفجرت دفعة واحدة.
•ملف اللاجئين السوريين(12)، وهو من أخطر التحديات الماثلة أمام الأطراف اللبنانية الحريصة على التوازن الديمغرافي للمقيمين في لبنان، وأية مقاربة لهذا الملف تحتاج لمشاركة سنية فاعلة حتى لا تصبح أزمة اللاجئين أزمة بين اللبنانيين أنفسهم بين من سيكون معهم ومن ضدهم، كما أن هناك مخاوف من أن تصبح بؤر اللجوء بيئة خصبة لنشوء جماعات مسلحة، قد تدفع بها الظروف للانخراط في اللعبة اللبنانية كما حصل في الحرب الأهلية اللبنانية مع الملف الفلسطيني.

على الصعيد الإقليمي

لا يوجد تغيير حقيقي في موازين القوى في سوريا، ولا يبدو في الأفق أن الغلبة الحاسمة ستكون لأحد الطرفين في المدى المنظور، لذلك تجد الأطراف المحلية اللبنانية نفسها مضطرة للتكيف مع هذا الواقع، وإدارة الأزمة اللبنانية كل من موقعه بانتظار تغير إقليمي يسمح له بتعزيز شروطه.
•تقاطع إرادة حزب الله وإيران في محاربتهم لما سمَّوْه: "إرهابًا" مع إرادة السعودية وتيار المستقبل، وذلك لأسباب تتعلق بأمن الإقليم وبمطالب دولية -وعلى وجه الخصوص ما يتصل بالقاعدة وشبيهاتها. وإن كان كل من الطرفين يستعمل مصطلح الإرهاب وفق تعريفه الخاص، إلا أن المساحة المشتركة بينهما كانت كافية لتشكيل حكومة مشتركة يتصدرها "الأمن" إلى جانب أشياء أخرى.
•التفاوض الأميركي-الإيراني، انعكس على تحسن علاقة إيران مع عدة دول خليجية، كما انعكس مرونة في الموقف السعودي من مشاركة حزب الله في حكومة "المصلحة الوطنية"، وقد تكون مقدمة لانفتاح أوسع يشمل زيارة الرئيس روحاني للسعودية، والتي كثر الحديث عنها.
•الحرص الدولي على عدم انتقال الحرب السورية إلى لبنان، لذلك رضي الأميركيون والأوربيون عمليًا بطريقة تطبيق حزب الله لسياسة النأي بالنفس إبّان حكومة الرئيس ميقاتي، والتي تقوم على التدخل بالحرب في سوريا والنأي بالحرب السورية عن لبنان، ويبدو أن تشكيل الحكومة الجديدة نفسه يأتي في هذا السياق، أي الرضى بهذه المعادلة لضبط تداعيات تلك الحرب على لبنان.

لبنان من "النأي بالنفس" إلى "ربط النزاع"

سقطت حكومة ميقاتي لفشلها في عدة ملفات، ولكن أهمها أن رئاسة نجيب ميقاتي للحكومة لم تستطع أن تمثل السنة بإعلانها "النأي بالنفس" عن الأزمة السورية، ولم تستطع أن تضبط الشارع السني وهي الوظيفة الأساسية لحكومته على الأقل وفق طموحات 8 آذار، كما لم تستطع أن تمنع مسيحي لبنان من الانحياز لطرفي المعادلة السورية في صراعهما وهي الرغبة الدولية المفضلة، فكان من الطبيعي أن تسقط الحكومة بسقوط سياسة النأي بالنفس بعد إعلان حزب الله مشاركته الواسعة في الحرب على سوريا وما نتج عنها من تداعيات وانقسامات داخل الحكومة نفسها.
ويبدو أن رأسي قوى 8 و14 آذار، أي: تيار المستقبل وحزب الله قد اتفقا على إقصاء سياسة النأي بالنفس، لأن المستقبل اعتبرها أكذوبة وجعلها منطلقًا لرفضه شخص وحكومة ميقاتي، في حين أن حزب الله "تورط" في الموافقة على هذه السياسة ولو من حيث الشكل بقبوله سياسة هذه الحكومة ابتداء، وبإعلان بعبدا انتهاء، وبرعاية من رئيس الجمهورية ميشال سليمان، فكان إعدام هذه الحكومة يمثل خلاصًا له من مناقشة هذا التعهد أو مطالبته به.
ووجد تيار المستقبل في ما سماه "حكومة ربط النزاع"(13) عنوانًا ملائمًا للعودة إلى الشراكة مع حزب الله في "حكومة انتقالية" "لإدارة البلد"، ومقتضى هذه السياسة عدم التنازل عن مواقف 14 آذار المطالبة بضرورة انسحاب حزب الله من سوريا وأن يسلّم سلاحه للدولة اللبنانية، مع احتفاظها بحق العمل حتى أثناء وجودها داخل الحكومة لتحقيق هذا الغرض. كما أعطى غطاء وخطابًا لأطراف الحكومة الجديدة لتواجه جمهورها الذي أبدى في جُلّه اعتراضه على هذا الاتفاق الحكومي لما تضمّنه من تنازلات كانت سببًا في رفض الحكومة السابقة من قبل 14 آذار أو أدت لإسقاطها من قبل 8 آذار.
ومن الناحية العملية فإن الحكومة الجديدة تختلف عن سابقتها بأن مكونها السني أكثر تمثيلاً لشارعه -أو أن هذا الأخير أكثر تفهمًا لقوى 14 آذار حتى الآن- ونجحت في ما فشلت فيه الحكومة السابقة في وقف التفجيرات والهجمات من دون انسحاب حزب الله من الحرب السورية، ومن دون إضفاء الشرعية الحكومية على أفعال حزب الله المرفوضة من قبل الطرف الآخر.
ومن أهم النتائج التي وفرتها المعادلة الجديدة "ربط النزاع" أنها ستعطي الأطراف اللبنانية فرصة لإعادة التواصل بغية حل المشاكل المحلية اللبنانية الأمنية والسياسية أو التخفيف من حدتها، وحل بعض القضايا المتصلة بالشأن السوري كقضية اللاجئين السوريين، وستُرسي المواصفات السياسية الأساسية المطلوبة لرئيس الجمهورية للمرحلة القادمة، وحتى لو فشلت في اختياره، لأن هذه المواصفات مطلوب توفرها في برنامج الحكومة التي ستقوم مقام رئيس الجمهورية في حال تأخر انتخابه.

تداعيات ونتائج

إن صيغة الحكومة الجديدة "ربط النزاع" ستترك آثارًا على طرفي النزاع اللبناني، وستثير شكوكًا عميقة خاصة داخل المعسكر المؤيد لقوى 14 آذار لاسيما المكون السني منه؛ حيث إن التجربة تبعث على الخوف من أن تكون الحكومة الجديدة برئاسة تمام سلام شبيهة بحكومة الرئيس فؤاد السنيورة التي حظيت بتوافق إقليمي ودولي من رعاة قوى 8 و14 آذار لتقود حملة عسكرية ضد ما يسمى "بالإرهاب" في مخيم نهر البارد الفلسطيني، والذي وضع السنة اللبنانيين وبشكل حاد في مواجهة الفلسطينيين(14).
وبالنظر إلى السياق الذي جاءت فيه الحكومة -ولا سيما تزامن تشكيلها وإعلانها عن خطة أمنية واسعة في لبنان، وبالتزامن مع ذروة مشاركة حزب الله في الحرب السورية لإسقاط آخر معاقل المعارضة السورية على الحدود بذريعة حفظ أمن لبنان- هناك خشية من أن تكون وظيفة هذه الحكومة إقليميًا قيادة حملة أمنية ضد "الإرهاب" مجددًا بمحاربة ومحاصرة "المتشددين السنة" وبمعايير تخدم الإقليم لتضع أطرافًا سنية لبنانية في مواجهة بعضها البعض، خاصة وأن منصبي وزارة الداخلية ووزارة العدل قد أُعطيا لصقور من تيار المستقبل بتصنيف حزب الله -نهاد المشنوق وأشرف ريفي- لكنهما أظهرا مرونة فائقة وغير متوقعة في التعاون مع الحزب سياسيًا وأمنيًا(15). وأُنيط بالخطة الأمنية التي أعدتها وزارة الداخلية تحقيق أهداف تتصل في غالبها بالأمن الجنائي إذا صحّ التعبير في مناطق حزب الله، أي: ملاحقة المطلوبين بقضايا جنائية، في حين غلب على الخطة الأمنية في مناطق السنة تحقيق أهداف سياسية -إلى جانب الجنائي منها طبعًا- تتمثل بضبط القوى السنية، خاصة تلك التي تذهب بعيدًا في وسائلها لدعم الثورة السورية، وذلك سواء بالإقناع أو بالأمن.
وهناك مخاوف تتعلق بالموقف السعودي المستجد الذي اعتبر "حركة الإخوان المسلمين" جماعة إرهابية، بحيث يصبح المعتدلون من الإسلاميين اللبنانيين (السنة) هدفًا كالمتشددين لأجهزة أمن حكومة "ربط النزاع" ولو بدرجة أقل، أو عرضة للتضييق السياسي، لاسيما وأن النموذج الإخواني المتمثل "بالجماعة الإسلامية" اللبنانية له نمط من التدين تتحلق حوله سياسيًا معظم الجمعيات الأهلية الإسلامية الفاعلة، فيتفاقم الانقسام في الفريق الواحد.
وعلى صعيد آخر، فإن سقوط سياسة النأي بالنفس لم يُسقِط خيار التمديد لرئيس الجمهورية الحالي ميشال سليمان فحسب، بل كرس صلاحية عملية للمسلمين سنة وشيعة بتكبيل رئيس الجمهورية سياسيًا وإضعاف حكمه، فبعد اغتيال رفيق الحريري فقد رئيس الجمهورية إميل لحود قدرته على ممارسة الحكم في آخر أيامه من قبل قوى 14 آذار وإن حال البطريرك الماروني نصرالله صفير حينها دون إسقاطه بالشارع(16)، في حين تعرض رئيس الجمهورية الحالي ميشال سليمان لهجمات حادة من قبل قوى 8 آذار أضعفت حكمه وتصرفت وكأنه بات غير موجود البتة(17)، إلا فيما يدعو إليه بعض اللياقة المتصلة باحترام المنصب المسيحي لا أكثر.
ولكن من جهة أخرى، استطاع الرئيس سليمان في موقف نادر لرئيس محدود الصلاحيات نتيجة لتعديلات الطائف، أن يحيّد "ثلاثية" استراتيجية دفاعية (شعب، جيش، مقاومة) لأقوى فصيل لبناني (حزب الله) عن برنامج الحكومة عندما وصفها "بالمعادلة الخشبية"(18)، بل جاء في كلام نائب أمين عام حزب الله نعيم قاسم صياغة جديدة لثلاثية يجب أن يؤمن بها رئيس الجمهورية المقبل، تقترب من مفهوم الدولة أكثر (السيادة والمقاومة وبناء الدولة)(19). وهذا يشي بأن قدرة رئاسة الجمهورية لم تعد تقاس في هذه المرحلة الجديدة بالصلاحيات التي أناطها الطائف برئاسة الجمهورية بل بقدرة الرئيس السياسية. والجدير بالذكر أنه تردد أن إسقاط المعادلة الثلاثية كان في مقابل عدم ذكر إعلان بعبدا في البيان الوزاري.
وبالنسبة لقوى 8 آذار وتحديدًا حزب الله، بغض النظر عن الأسباب الموجبة فقد اضطر لتقديم تنازل كبير بقبوله استقالة حكومة كانت لمصلحته (حكومة ميقاتي)، ورضي بشراكة الطرف الآخر في حكومة جديدة لاسيما في وزارة العدل حيث لا يزال عدد من عناصره متهمًا باغتيال رفيق الحريري، وفي وزارة الداخلية حيث يتداخل أمنه وأمن بيئته الحاضنة مع مسؤولية هذه الأجهزة عن أمن لبنان. فهذا الإجراء نفسه هو في الحقيقة عودة للوراء وإلى ما قبل تكليف الرئيس ميقاتي من الناحية السياسية، وسيعيد اللعبة إلى نفس المربع بغض النظر عن المكاسب التي حققتها قوى 8 آذار خلال فترة إدارتها لحكومة من دون الطرف الآخر. ويؤكد أيضًا أن الفاعلين المحليين اللبنانيين غير مطّلعين كفاية على خيارات الفاعلين الإقليميين الذين لا يزالون يتمسكون بالشراكة، وأن ما بعض ما يحققونه في سوريا -وهو لأهداف إقليمية كبرى طبعًا- لبنانيًا هو لتعزيز حصتهم في هذه الشراكة وليس لغلبة ساحقة من فريق على فريق قد تعيد إشعال حرب أهلية لا يريدها أحد راهنًا أبدًا.
وأداء قوى 14 آذار ينذر بأنها أصبحت قاب قوسين أو أدنى من الاعتراف بإيران شريكًا كاملاً -أو بديلاً عن سوريا- في رعاية اتفاق الطائف، وذلك خشية من نسفه إيرانيًا بغية إعادة تأسيس جذري لعقد جديد يقوم على الوقائع الجديدة التي أودت بالدور السوري في المنطقة. وسيكون تفسير الطائف من قبل القوى المحلية وفق الرعاة الجدد محور نقاش إقليمي بين إيران والسعودية وكذلك دولي ليهدم التفسير السابق الذي حكم لبنان منذ عام 1990 تقريبًا إلى حين انسحاب الجيش السوري من لبنان عام 2005، وهي الحقبة المسماة "بحقبة الوصاية السورية". ولا يمكن حتى اللحظة التكهن باسم الحقبة المقبلة وماذا سيكون وصفها بدقة، لكن حكومة "ربط النزاع" هي ساحة اختبار لتفاهم أوسع قد تمتد لتكون مرحلة "ربط نزاع" انتقالية، لتفتح الباب أمام اتفاق "دوحة" جديد لتفسير جديد للطائف، لاسيما أن اتفاق الدوحة السابق 2008 (20) كان أول محاولة لتفسير جديد لبعض الطائف ولأول مرة بمشاركة إيرانية فاعلة من الكواليس وغير مباشرة، لاسيما أن ترك الخيارات مفتوحة أمام أكثر من "طائف"، تعني فتح أكثر من سبيل للحرب الأهلية وهي مرفوضة.





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً