العدد 4275 - الأربعاء 21 مايو 2014م الموافق 22 رجب 1435هـ

مكافحة التحضُّر

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

مذ كنا صغاراً كان التحضُّر لا يُحتَرم. مَنْ كان يلبس جيداً يقال عنه مُدلَّل. ومَنْ يجتهد في حديثه بلباقة وأدب جَم يقال عنه انه يتفلسف! ومَنْ كان لا يخرج من بيته في ساعة الظهيرة اتقاء الشمس والشوارع المهجورة، يُنعَت بـ «ابن أمِّه».

ومَنْ كان يُذاكر دروسه جيداً كي يتفوق في المدرسة يوصف تهكماً بأنه يتشبَّه بسقراط. ومَنْ كان يذهب إلى المسجد ليصلي بشكل صحيح يُعطى لقباً دينياً سخريةً من حاله.

كثيراً ما كنا نرى ونسمع ذلك. وصل الأمر إلى الحد الذي عندما يتأوَّه أحدٌ من ركلة في بطنه، أو يبكي من ألمٍ أصابه، يقال له أنثى! لقد كان التعبير عن الألم يشكل عيباً، وبالتالي يجب أن لا تبكي ولا تقل آه، كي تُثبت أنك صبي له مستقبل رجل.

حتى الخلافات لا يجب أن تُحَل إلاّ بالعراك والضرب وليس بالتفاهم! وعندما يُقرِّر الطرف الأقوى أن السبيل هو لَكَمَات اليد، فيخفض الطرف الأضعف جانبه ويقرر الانسحاب يُعيَّر ويُنعَت بالجبن والضعف والهوان والمذلة والشُّرود والهزيمة والانكسار إمعاناً في إهانته.

وعندما كَبُر الجيل، كَبُرت معه تلك الأشكال الثقافية السيئة، تاركاً لسلفه ذات الثقافة، وحاملاً معه هذه الصورة، من العلاقات الاجتماعية الموبوءة، والنظرة التافهة للنفس والطباع، دافعاً بها للعيش على ثقافة الغاب، فلا يرى نفسه إلاَّ مجرد حيوان غابي مفترس مسعور بلا عقل ولا قلب، حتى وإن بَدَت هيئته الخارجية على غير ذلك.

عندما كَبُر الجيل، أصبح عصياً عليه الالتزام بالأشياء العادية، وما تقبله فيها سليقة البشر وتَسَالَم عليه العقلاء الأسوياء. عندما تقرر مواعدة أحد وتأتيه في الوقت المضروب التزاماً منك بالعهد واحترماً للزمن، يُنظر إليك بشيء من الغرابة وكأنك شاذ ومُبالِغ.

وعندما تهتم بأمورك الصحية ينظرون إليك بأنك كثير الوساوس. وعندما تتحاشى الأكل الدَّسم والطَّبَرْزَذ، وتلجأ إلى صحيح الطعام تٌثبَّط عزيمتك كون العمر لا تحدده أنت! وعندما تزمع أن تُكمِل دراساتك العليا، تُسأل بتهكُّم: ماذا ستستفيد من ورقة؟

وعندما تذِّخر مبلغاً من المال لليوم الأسود يُتَمتَم من خلفك بأنك تدَّعي الفقر في حين أنك تكنز المال! وعندما تنصح أحداً، تُنعَت بأنك تتمشيخ! وعندما تركب سيارة ليست فارهة، كي لا تنفق عليها من قرض يُذِلُّك في النهار، ويُهمُّك في الليل، يقال عنك بأنك تحرم نفسك من ملذات الحياة.

توسَّعت هذه الثقافة، في مكافحة التحضُّر لتشمل أشياء أكثر وبصور مختلفة، تَدَاخلَ بعضها ببعض. لقد دخلت تلك الثقافة المكافِحَة للتحضُّر في السياسة فأفسدت جزءًا كبيراً منها. عندما تطلب من أحد أن يتحضَّر في سلوكه السياسي تُوصَف بأنك «انبطاحي» أو مجرد «حزب كَنَبَة» كما يقول المصريون.

وبسبب رفض التحضُّر، صار المطالِبون بحياة سياسية أفضل، مجرد أوباش ومشكوك في نواياهم. لقد تشوَّه العقل السياسي، إلى الحد الذي لم تعد معاني الوطنية والانتماء والإصلاح والظلم والعدل وحفظ النفس تعني ما تعنيه من أمور بيِّنة.

سَرَى الأمر على الفكر والتفكير أيضاً، فأصبح شراء الكتب وقراءتها مجرد «تَرَف وتنظير ممل». وباتَ مَنْ يتحدث في محفل بغير السائد بحجة ودليل يُنظَر إليه على أنه «متمرِّد ويتعالَم على غيره». ومَنْ يعتنق أفكاراً جديدة ويعيد قراءة الأشياء مرةً أخرى يُنظَر إليه كإنسان «متقافز» ويُدعَى له بالهداية.

في التربية، أصبح مَنْ يعتذر هو إنسان ضعيف. ومَنْ يتراجع خفضاً منه للجانب لا يزيد عن إنسان منكسر. ومَنْ يعِش ويتحدث بصدق مع الناس وبلِيْن عريكة، هو مجرد إنسان بسيط ومسكين.

وعندما نراجع كل تلك الصور في حياتنا، نكتشف أننا غارقون في التخلف والبدائية! فالأصل دائماً للقاعدة وليس للشواذ. وعندما نقوم بتحويل تلك المعادلة إلى شكل معقوف، يُصبح هناك خلل في التفكير وفي منظومة الحياة وفي علاقاتنا بأنفسنا ومع الآخرين.

ألا يتساءل المرء: أين التحضُّر عندما يجب أن نتحدث بسُوقيّة؟ وأين التحضُّر عندما نتعامل بنزقٍ مع الآخرين؟ وأين التحضُّر عندما يجب أن نكون كـ «قدِّيسي الأيام الأخيرة» في جنونهم كي نُثبت أننا أوفياء لقضايانا السياسية؟ والحال يسري على بقية الصور الاجتماعية والاقتصادية والتربوية التي صار التحضُّر فيها منتَهَكاً.

نحن اليوم في معركة مفتوحة مع القيم الهابطة لصالح القيم الرفيعة والصحيحة التي افتقدها مجتمعنا. ما نحتاجه اليوم هو إعادة تصحيح لمسار ثقافي يتعلق بالسلوك الذي أنتجته النشأة الاجتماعية المتسلطة منذ زمن بعيد.

في مجتمعنا، الذي تكوَّنت فيه الأجيال الصاعدة، شباباً/ شابات، متزوجين أو غير متزوجين وفق نَسَق «الأسر السلالية» في قِبال الأسر غير المركَّبة، يعني الكثير جداً بالنسبة لمعركتنا مع تلك السلوكيات، الناتجة أصلاً من حالة التسلُّط التي ينتجها ذلك النمط من التنشئة، التي بدأت من الأسرة ثم امتدت إلى المجتمع الناتج عنها طبيعياً.

ما يجب أن يتم في هذه المرحلة من حاضرنا، هو أن نعيد ترتيب أنماط السلوك وفقاً للمتغيرات الاجتماعية التي جرت على الحواضن الأسرية، بتحوِّلها إلى أسر «نووية» غير مُركَّبة، وارتخاء القبضة التسلطية في المجتمع، والمضي في إعادة تعريف للسلوك التربوي والأخلاق، والنظرة إلى الأشياء بطريقة أكثر احتراماً «وبحقوقية اجتماعية».

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 4275 - الأربعاء 21 مايو 2014م الموافق 22 رجب 1435هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 13 | 10:42 ص

      تحية كبيرة للكاتب

      مقال أكثر من رااائع اسلوب متميز وسلس
      رتابة في الأفكار واسلوب يجذب القارئ

    • زائر 12 | 12:16 م

      محرقي بحريني

      الاخ محمد عبدلله خليتني أشك فيك أنك من شياب جيلنا أحنه لان أشلون هل الاشياء من العادات القديمة لحقت عليها أحنه وأنت شكلك صغير من شباب مال هل الوقت
      قول الصج جم عمرك هههه
      يعطيك العافية كاتبنا الكبير وأنه يعجبني الكاتب المتنوع مثلك

    • زائر 9 | 10:42 ص

      صح لسانك

      فعلا أستاذ محمد نحن نعاني من كل الأشياء اللتي ذكرتها ونحتاج أن نعيد النظر في أمور تربوية كثيرة والتركيز على القيم الصحيحة.

    • زائر 8 | 8:26 ص

      شكرا أ. محمد

      أسأل الله لك التوفيق

    • زائر 7 | 7:30 ص

      فصل من رواية

      هذا المقال مرآة لواقعنا وكأنه تلخيص لرواية تكشف عيوب المجتمع المضمرة والمسكوت عنها.. أنت كاتب كبير وقدير.. يامحمد ابن عبدالله

    • زائر 6 | 6:50 ص

      Positive attitude

      مقالاتك تحليليه ومفيدة-يا ريت الكل ينظر الي الكاس نصف مليان وليس العكس

    • زائر 5 | 5:09 ص

      أحسنتَ سيدي

      أحسنت سيدي على هذا المقال الرائع الذي يصف حال التمسك بالتخلف بدقة تامة.

    • زائر 4 | 2:21 ص

      متابع

      ترى هل يعيش الغرب التحضر ؟ . . نرجوا من الكاتب الكريم أن يكتب مواضيع تتناول ما وصلت إليه الحضارة الغربية في مختلف النواحي ( سياسية اقتصادية اجتماعية أسرية أخلاقية ) . . . . لا ننسى أن أبنائنا - ونحن على استحياء - نعتبر الغرب ملهما ونموذجا و حلما راقيا ، نريد أن نعرف ما نأخذ منهم وما لا نأخذ . . .
      أقلها أن يشير كاتبنا الكريم إلى مصادر تناولت هذه المواضيع بشكل منصف ومفيد

    • زائر 3 | 1:38 ص

      مقال رائع

      أجمل ما في المقال طرحك لحل للمشكلة التي فصلتها لكن الزمن جار علينا من وين نسويها نووية يا استاذ. توه امس واحد من الدراز عازم وزير الاسكان و اذا الوزير عنده دم و نخوة اقل شي يسويه يستقيل

    • زائر 2 | 11:54 م

      فائدة القارئ تكمن هنا

      القارئ عادة ما يستمتع ويستفيد من المقالات التي تضم الافكار والتحليل والتاريخ وهو ما ينطبق على هذا المقال فعلا

    • زائر 1 | 11:52 م

      تحية لك

      مقال اجتماعي رائع جدا

اقرأ ايضاً