إلى من يستهويهم، مؤخراً، الحديث عن المجتمع البحريني وتحولاته عبر التاريخ، وهم يمسكون بقلم ومقص للقطع واللصق من هنا وهناك بما يناسب رأيهم وما يرمون إليه. نقول دعكم من «الشو» الإعلامي التاريخي باسم البحث العلمي، لهدف يعلمه الناس عن كل من يقوم بعكس ذلك اليوم في الساحة، وتعالوا لكلمتين سواء نقرأها معاً، وملاحظتين عارضتين نختلف فيهما سوياً، وغفر الله لكم، كما ترددون أمام كل اسم تدينون له بشيء.
الكلمة الأولي: اقرأوا معنا بنَفَسٍ وطني حقيقي، جانباً آخر أكثر أهمية ومدعاة للبحث النفسي والاجتماعي الرصين، مما أُبتُلي به المجتمع البحريني خلال سنوات بسيطة مضت من زماننا هذا، كما ما لم يُبتلَ به طوال قرون من التعايش السلمي الحضاري حتى مع الآخر القادم والطارئ على المجتمع الأصل. لقد أُبتلينا حقيقة ببعض المتحوّلين من يسارٍ إلي يمين، ومن صائدي الجوائز المجانية، وليس الغزلان البرية، على حساب دموع وآهات وآلام الآخرين؛ ومن بعض المنافقين، والعياذ بالله، لأنهم مذمومون في القرآن الكريم؛ ومن سُرّاق أحلام الناس البسطاء وهم نيام في مضاجعهم؛ ومن بعض أصحاب النفوس المريضة التي لو اعترفت بمرضها وتوجّهت لأطباء الصحة النفسية لانتعش سوقهم حقاً. ومن بعض الكتبة المسترزقين على حساب حضارة البلاد، والذين أكثروا من تزييفهم لتاريخ العباد.
والكلمة الثانية: لماذا يثير ما كتبه فؤاد الخوري في الفصل الثاني من مؤلفه، من رؤى وحقائق له حرية التعبير عنها بطريقة الباحث العلمي المنصف؛ حفيظة بعض المتحوّلين، فيصفون ما كُتب بأنه غير حقيقي ولا يستحق الدراسة والاطلاع. هل لأنه قال بأنه ليس من صفات المجتمع الحضري المتعدد الموارد الاقتصادية كمجتمع البحرين، أن يقوم على نظامٍ يعتمد على التجزؤ وتوازن الأجزاء وتضادها وضعف السلطة المركزية وتفرعها، فالبحرين مجتمع ذو تراث عريق في مختلف وجوه المعيشة من الزراعة، والحرف اليدوية، وصيد اللؤلؤ، والتجارة، والإبحار.
والملاحظة الأولي، عجباً ممن يتكلم عن الريف والمدينة في جزر البحرين المحدودة المساحة بشكل لا يؤكد أن هناك فرقاً حتى في خطوات الأقدام بين المنامة وضاحية من ضواحيها، مثلاً كقرية السقيّة أو الزنج، أو قزقز المندثرة؟ فنحن لا نتحدث هنا عن شبه الجزيرة العربية مثلاً، فالفرق بيّن وشاسع بين سكان نجد من البدو، وسكان الحجاز من الحضر والبدو، وسكان جبال عسير، وسكان ريف الاحساء، ولا نتكلم عن مصر مثلاً بوجهها البحري المدني وصعيدها الريفي؟ كما أنه في كافة إمارات الخليج السابقة بشمال عُمان، وشبه جزيرة قطر، وجزر البحرين، والقرين (الكويت)؛ لا مكان لهذه الفرضيات الاجتماعية بمدارسها العلمية في الحديث عن مجتمع ريف ومجتمع مدينة. فلماذا تخضعون أي تجمع سكاني بموقع جغرافي لنظريات درستم تفاصيلها في كتب المناهج العلمية لا غير، لتصبحوا كمن يتحدّث عن صراعات «البروليتاريا» والإقطاع الزراعي، وطبقة الفلاحين، والبرجوازية، والارستقراطية، كلها في مجتمع الخليج الصغير مساحةً وسكاناً ووجوداً لمثل هذه الطبقات فيه طوال التاريخ.
ببساطة، في البحرين، نجد أن ساكن المدينة يعرف كل مكان في ريفها ومقاماتها ومزاراتها الدينية بأسمائها ومواضع وتاريخ بنائها ومن يملكها. ولهذا تجد علاقة أهل المحرق مثلاً، وهي في الشمال، قويةً بمسجد الصحابي صعصعة بن صوحان العبدي وهو في قرية، بحسب التقسيم الذي يتبعه البعض، بعيدة في أقصى شرق البحرين. كما أن قاطن الريف يعرف كل مكان في المنامة، ولا يمكن أن يتوه فيها ولا يستطيع العودة لمقره في قريته. لذا فنظرية فصل المدينة عن الريف في المجتمع البحريني كما هو في المجتمعات الأخرى، تُعد متهالكةً ضمن هذا التصور.
وبناءً عليه، لم يستطع الكتاب ومن تعرّض لدراسة المجتمع البحريني، بحيادية وموضوعية، إلا أن يقرّ بأن حدود القرية في البحرين يكون عادةً في المجموعات العائلية التي تتألف منها وليس في مدى ارتباطها أو عدم ارتباطها بالمدينة. فالقرية في البحرين، إن صح التعبير، ليست في حدودها الجغرافية المنفصلة عن المدينة بل بقدر ارتباط أهالي القرى بالمدينة اقتصادياً واستقلالهم عنها اجتماعياً في الأغلب. ويفوت على من يتبنى توجه الفصل بين القرى والعاصمة في البحرين، أن جزءاً كبيراً من أهل المنامة بالتحديد أصولهم من القرى، وهناك الوثائق التي تثبت ذلك وتم نشرها. أضف إليهم القادمين من مناطق الخليج الأخرى بسبب قيام المدن عند ساحل البحر كموانئ تعتمد أساساً على الفعاليات التجارية المحلية والخارجية المستوطنة للمدينة، خصوصاً بعد تحول طرق التجارة بين اللؤلؤ والنفط إلي غرب شواطئ الخليج.
والملاحظة الثانية، عند الحديث عن أهم التحولات في المجتمع البحريني، لماذا يتم التغاضي عما أحدثته سياسة فتح الباب أمام القوى العاملة الأجنبية منذ السبعينات من القرن الماضي بشكل ملفت للنظر في هذا المجتمع؟ بما أحدثته من إضعاف حقيقي في نمو الكيان العمالي البحريني المنظم ذي القوى المؤثرة في الساحة المجتمعية والاقتصادية وفي استمراره؛ بدلاً من اللجوء لطرح عناوين بحيثيات غريبة، يتخيّل فيها البعض أن هناك نظاماً اجتماعياً ليس له أساس وخلفية علمية حضارية جاء من خارج الحدود، هو من له الفضل في نقل التنظيم الاجتماعي البحريني من الريف إلى المدن. فأيهما أحرى بالمعالجة والبحث العلمي الرصين للخروج بالمفيد من أجل التطوير المستقبلي للمجتمع، بدلاً من لقلقة لسان تثير مكامن مريبة لسنا في حاجة إليها اليوم.
أضف إلي ذلك، هل تغيير نظام ملكية الأرض قسراً وجبراً وتحويلها لأيدي مجموعات طارئة لا تملك ارتباطاً عضوياً بتلك الأرض الزراعية، أدى إلى خير هذه الأراضي، أم أدّى إلى تحويلها إلى أراضٍ بورٍ غير منتجة، أو تدميرها عطشاً بشكل تدريجي وتحويلها إلى هياكل إسمنتية صماء تدر أموالاً سريعة وليس إنتاجاً حضارياً راقياً كالإنتاج الزراعي الذي كان عنواناً لبلدنا ذات يوم بجانب اللؤلؤ والأسماك. أم أنك لم تقرأ ما كتبه الرحالة ابن بطوطة عن البحرين «وهي مدينة كبيرة حسنة، ذات بساتين وأشجار وأنهار... وبها حدائق النخل، والرمان، والأترج، ويزرع بها القطن»... والحديث ذو شجون.
إقرأ أيضا لـ "محمد حميد السلمان"العدد 4273 - الإثنين 19 مايو 2014م الموافق 20 رجب 1435هـ
كانوايسمون البحرين قصر البستان
لكثرة البساتين والمياه فيها الصيف شبه معتد ل وكانت تنعم بخيرات مما ادى الى هجرة الناس في الخليج اليها
حديث
الحديث عن البحرين سابقاً والان هو حديث ذو شجون وشكراً للكاتب المحترم ع المقال الشيق.