العدد 4269 - الخميس 15 مايو 2014م الموافق 16 رجب 1435هـ

الكلفة الحقيقية لدعم الطاقة والمياه في دول الخليج

تشكل منطقة الخليج حالة اختبارية لأحد أهم الأسئلة في زماننا، وهو كيف نتلافى النماذج المؤذية لاستخدام الموارد عندما تكون متأصلة في اقتصاداتنا ومجتمعاتنا؟

غالباً ما توصف بلدان مجلس التعاون الخليجي الستة، وهي الإمارات والبحرين والسعودية وقطر وكويت وعُمان، بأنها معجزة حققتها الثروة النفطية: أبنية فخمة ومستهلكون مسرفون في أرض فقيرة التربة وشحيحة الأمطار. ولكن، في الواقع، التمدد الحضري والمشاريع الترفيهية والمجمعات الصناعية التي نشأت خلال السنوات الأربعين الماضية بددت وتبدد الثروات الكامنة تحت الأرض بوتيرة متزايدة.

لقد عززت المياه والطاقة الرخيصتان هذه الطفرة، لكن ذلك أسفر عن بنى تحتية اقتصادية وعمرانية تزيد الطلب على الموارد المستنزفة أساساً. ووفق الاتجاهات الراهنة للاستهلاك، فإن البلدان الخليجية ستصبح معتمدة بشكل متزايد على الواردات، التي لن تقتصر على الغذاء وما يعرف بـ «المياه الافتراضية» المختزنة في الغذاء، وإنما تتعدى ذلك إلى الغاز، باستثناء قطر. إن هذا المسار، كما تعلم الحكومات، ينطوي على مخاطر جمة، ومنها ضخ حصة متزايدة من عائدات النفط لتمويل الفجوة بين المنتجات المستوردة والأسعار المحلية، وذلك على حساب إرث الأجيال المقبلة.

إذ تضاعف عدد السكان في منطقة الخليج خلال السنوات الثلاثين الأخيرة. وترافق ارتفاع معدلات الإنجاب مع ازدياد أعداد العمال الأجانب الذين باتوا يشكلون نحو 90 في المئة من المقيمين في قطر والإمارات. وأدى الارتفاع الكبير في أسعار النفط خلال العقد الماضي إلى ازدياد استهلاك الطاقة والمياه وأثر على العادات الغذائية، وأسفر عن اتجاهات غير مستدامة في نواح متعددة.

ومع استنزاف موارد المياه الجوفية، تزداد الحاجة إلى زيادة قدرات تحلية مياه البحر بوتيرة أسرع، مما يعني استنزاف النفط والغاز وازدياد ملوحة مياه الخليج. ففي الإمارات العربية المتحدة، يتوقع نضوب موارد المياه الجوفية غير المتجددة خلال خمسين سنة.

وفي السعودية تدنى منسوب المياه في بعض الطبقات الجوفية إلى مستويات خطرة. حتى الينابيع في منتزه الأحساء الوطني في المنطقة الشرقية جفت تماماً وباتت تروى بمياه الصرف المعالجة.

حتى العراق وإيران المجاورتان تتوقعان شحاً مائياً حاداً خلال العقود المقبلة، وسيظهر ذلك جلياً مع تضافر التحديات، من النمو السكاني والمشاريع الصناعية والإفراط في بناء السدود، وتغير المناخ، وما سيتركه ذلك من أثر سلبي على تدفقات الأنهار.

إن هدر الموارد حاصل في كل مكان. فوفقاً لمصادر محلية، تتم خسارة ما يصل إلى 40 في المئة من إمدادات المياه المحلاة خلال عملية التوزيع في السعودية. ويعاد تدوير كمية صغيرة جداً من مياه الصرف في أنحاء منطقة الخليج لاستعمالات ثانوية كالري والغسل.

أما في العراق وإيران، اللتين تعانيان من نقص وعدم كفاءة في توليد الطاقة، فقد أحرقت كمية من الغاز المرافق لإنتاج النفط العام 2012 تكفي حاجة بولندا واليونان وبلغاريا. وإضافة الى الغاز، تحرق السعودية، التي تملك إمكانات هائلة من الطاقة الشمسية، أكثر من نصف مليون برميل من نفطها الثمين يومياً لإنتاج الكهرباء، ويهرق المزيد في محطات توليد غير كفوءة لتبريد المباني خلال أشهر الصيف.

وأما الهدر الغذائي فهو مرتفع أيضاً، فمن أصل 7000 إلى 8000 طن من النفايات البلدية التي تتولد يومياً في دبي وحدها، يقدر أن نحو 36 في المئة منها طعام.

متلازمة الغذاء والمياه والطاقة

إن لهذه الممارسات المتعلقة باستثمار الموارد نتائج متشابكة، وهي تجسد العلاقة التلازمية بين الغذاء والمياه والطاقة، التي أصبحت محور اهتمام العالم. ففي السعودية، على سبيل المثال، ساهم الدعم الكبير للمزارعين وانخفاض أسعار الديزل في الاستنزاف السريع لموارد المياه الجوفية، التي كانت ضخمة في ما مضى، الأمر الذي زاد الاعتماد على محطات تحلية مياه البحر المشغلة بالوقود الأحفوري.

وقد تم اتخاذ خطوة حكيمة بالتخلي تدريجياً عن دعم أسعار القمح للحد من خسارة المياه الجوفية. ولكن مع بقاء الديزل المستخدم لضخ المياه الجوفية من الأرخص في العالم، وعدم تسعير المياه، تحول بعض المزارعين الى إنتاج الفصة، الأكثف استهلاكاً للمياه. وهي تستعمل في الدرجة الأولى علفاً لقطعان الأبقار، التي يباع حليبها بسعر أدنى كثيراً من قيمة المياه والطاقة المستخدمة لإنتاجه.

ويقدر خبراء أن إنتاج ليتر من الحليب في السعودية يحتاج إلى كمية من المياه تصل الى 1000 ليتر، ومع ذلك يباع بما يعادل دولاراً واحداً تقريباً.

عندما يتعدى الطلب على أحد الموارد مدى توافره في بلد ما، فقد يفرض تكاليف على موارد أخرى.

في الإمارات، على سبيل المثال، يؤدي ازدياد واردات الغاز الى ارتفاع تكاليف إنتاج المياه. وفي بلدان مجلس التعاون الخليجي، يمثل هدر المياه ضياعاً فعلياً للنفط وللغذاء الذي يمكن إنتاجه.

ولا تقتصر التأثيرات على جيوب الناس، بل تمس صحتهم أيضاً، إذ تزداد البدانة بعد تحول كبير خلال السنوات الخمسين الماضية من نظام غذائي يرتكز على الحبوب والخضر المحلية الى استهلاك اللحوم والألبان والسكر بكميات كبيرة. ومن النتائج أيضاً ازدياد تلوث الهواء.

وَهْم الوفرة

هذه مشاكل ذات طابع عالمي، لكن الظروف المتطرفة في منطقة الخليج تؤدي إلى تفاقمها. لذا يجدر بالعالم أن يراقب كيفية تعامل بلدان الخليج معها. في حالة بلدان مجلس التعاون الخليجي، يدفع «وهم الوفرة» إلى الاستهلاك المفرط وعدم الكفاءة، وهذا يرتبط بالأسعار التي لا تعكس الندرة ولا التأثيرات السلبية للاستعمال، مثل التلوث واستنزاف الموارد وانبعاثات غازات الدفيئة.

ومن المعروف الآن أن الناس لا يدفعون حتى التكاليف المنخفضة نسبياً لإنتاج طاقتهم ومياههم. ففي السعودية مثلاً، قدر البنك الأهلي التجاري الدعم المباشر لمستهلكي المياه المحلاة بنحو 5,5 بلايين ريال (1,5 بليون دولار) العام 2011. هذا الرقم سيكون أكبر بكثير إذا تضمن التكاليف غير المباشرة للطاقة. أما الكويت، فتعتمد تعرفة ثابتة بمقدار فلسين (0,01 دولار) لكل كيلوواط ساعة من الكهرباء منذ العام 1966، مما يعني أن الحكومة تدفع أكثر من 90 في المئة من تكاليف الإنتاج.

وانخفاض تكاليف الوقود في بعض البلدان يعني خسارة مضاعفة. ففي السعودية والعراق، يتم تهريب كميات كبيرة من الديزل عبر الحدود إلى بلدان حيث الأسعار أعلى، مثل الأردن والإمارات واليمن.

وقد أدى ارتفاع كلفة دعم الأسعار، والمعدلات المقلقة لاستنزاف الموارد، والتهريب، إلى إطلاق بعض المبادرات الجدية المتعلقة بالكفاءة، مع تركيز خاص على تحسين معايير المباني والأجهزة الكهربائية. وبات السعر أيضاً على جدول الأعمال. ففي مؤتمر للبترول عقد في نوفمبر/ تشرين الثاني، أعلن وزير النفط والغاز العُماني: «إننا نهدر الكثير جداً من الطاقة في المنطقة... ما يدمرنا الآن هو دعم الأسعار... علينا ببساطة رفع سعر الوقود والكهرباء».

ويوافقه على ذلك ضمنياً كثير من المسئولين الآخرين. وقد تم رفع تسعيرتي الكهرباء والمياه بشكل كبير في دبي، لكن إصلاح سعر الوقود مسألة حساسة. فلماذا يتعين على منتجي النفط الكبار أن يجبروا شعوبهم على دفع ثمن الوقود؟ على رغم أن معدل الأجور في بلدان مجلس التعاون الخليجي أعلى كثيراً مما في بلدان أخرى تفرض أسعاراً أعلى للطاقة، فإن البيئة السياسية حيث يحب القادة تأدية دور العطاء تجعل فرض دفع ثمن الموارد أمراً صعباً.

توفيرات بمليارات الدولارات

خلال السنوات الخمس الماضية، استمعت أنا وزملائي في «تشاتهام هاوس» إلى مخاوف مجموعة كبيرة من الخبراء في الخليج حيال الأنماط الاستهلاكية. ويفيد تقرير مبني على عملهم وعلى خبرة دولية، يصدر في يونيو/ حزيران 2014، بأن على البلدان أن تباشر تقييم تكاليف الموارد الحالية.

ومن شأن اعتماد سعر «مرجعي» أو «شكلي» للموارد أن يتيح للمخططين الحكوميين قياس التوفيرات المتاحة من الاستثمارات المختلفة والإجراءات السياسية، لتحديد ما يستأهل الاستثمار فيه اليوم لتحقيق توفير في المستقبل.

الحالة الاقتصادية واضحة للكثيرين، والحسابات التي نشرناها في أغسطس/ آب 2013 تظهر أن اعتماد إجراءات أساسية لتحسين الكفاءة سيمكن السعودية من توفير ما بين 1,5 مليون ومليوني برميل من النفط المكافئ يومياً بحلول سنة 2025، مما يوفر نحو 36 مليار دولار سنوياً حتى بسعر 80 دولاراً لبرميل النفط و20 دولاراً لمكافئ برميل النفط من الغاز.

وتظهر دراسات مفصلة أخرى أجرتها مراجع رسمية في أبوظبي أن من شأن اعتماد خطة متكاملة لأنظمة التبريد وتكييف الهواء أن يحقق توفيراً في الكهرباء يعادل إنتاج محطتين نوويتين بحلول سنة 2020.

سعر يعكس قيمة المورد

إذا قررت الحكومات تحميل المستهلكين بعض تكاليف الموارد، فيجب أن تجري أبحاثاً لتحديد المجموعات التي ستتأثر سلباً بارتفاع الأسعار، وكيف سيؤثر ارتفاع سعر سلعة واحدة (مثل الوقود) في أسعار سلع أخرى (مثل المواد الغذائية). وهناك أيضاً فرص يجب أخذها في الاعتبار: كيف يمكن تمويل التنمية وفرص العمل بالتوفير الناتج من تخفيض الدعم؟ وأي استثمارات جديدة للقطاع الخاص يمكن أن يجذبها ارتفاع الأسعار؟ دبي، على سبيل المثال، تشجع سوقاً ناشئة لخدمات الطاقة لم تتحقق إلا نتيجة رفع أسعار الكهرباء والمياه.

سوف يخلق ارتفاع الأسعار رابحين وخاسرين، وهذا يثير مزيداً من الأسئلة حول قدرة الحكومات على اجتياز حقل الألغام السياسي للإصلاح، وتنفيذ الإجراءات بفعالية وعدالة. ولا شك في أن ثقة الجمهور بالحكومة والأداء الإداري عنصران أساسيان لتصميم برامج الإنفاق العام الخاصة بإدارة التحول الى أسعار أعلى للموارد.

إذا ظن الناس أنهم سوف يخسرون فيما يحقق مسئولون حكوميون مكاسب غير مشروعة، فعندئذ سوف يعارضون الخطط المطروحة. وقد تكون الحال كذلك إذا بدت الإجراءات التعويضية معقدة جداً. لذا من المنطقي وضع خطة تحول شاملة يحصل المواطنون بموجبها على حصة متساوية من نسبة مئوية من التوفيرات.

هذا ما فعلته إيران العام 2010، ويمكن تعلم الكثير من تلك التجربة. فقد تم تحديد تقديمات نقدية عالية جداً، وتركت مبالغ غير كافية لتعويض صناعات حيوية مثل محطات توليد الكهرباء. لكن الناس عموماً قبلوا المقايضة، التي أثبتت نجاحاً، بالمقارنة مع ردود الفعل العنيفة حيال ارتفاع أسعار الوقود في بلدان مثل نيجيريا وبوليفيا.

أما العراق والأردن فأرفقا رفع أسعار الوقود بتعويضات للعائلات الفقيرة. وثمة ما يمكن تعلمه في كلتا الحالتين. فعندما تبين أن مسئولين في وزارة العمل العراقية يستفيدون من مخصصات الفقراء، أُبطلت مركزية النظام وزوّد ببرامج كومبيوتر خاصة للتقليل من فرص الاحتيال. وتظهر الخبرات الدولية أن المرونة في تنقيح الخطط وتطويرها ضرورية لنجاحها.

القدرة على التحمل

تعتبر آراء الجمهور والمصالح المكتسبة تحدياً أكبر من الحرمان في بلدان مجلس التعاون الخليجي. وكما أشار وزير المياه والكهرباء السعودي عبدالله الحصين، يدفع الناس ما معدله 200 ريال سعودي (53 دولاراً) في الشهر لتسديد فواتير هواتفهم المحمولة، لكنهم يدفعون أقل من ريال (0,27 دولار) شهرياً في مقابل مياههم المنزلية.

ويهتم المستهلكون بالكلفة الاجمالية لفاتورة الكهرباء أو المياه المنزلية وليس بكلفة الكيلوواط ساعة أو الليتر. وهذا أمر يمكن تغييره، خصوصاً لدى العائلات المنخفضة الدخل، من خلال استعمال تعرفات متدرجة (توفر إمداداً كافياً بسعر منخفض وتتقاضى سعراً أعلى في مقابل طاقة إضافية)، ومن خلال استثمارات الكفاءة.

ويجب رفع كلفة النقل إلى حدّ لا يؤذي المواطن العادي. ويظهر حساب تقريبي أن 90 ليتراً من البنزين (سعة خزان سيارة دفع رباعي) بالأسعار الوطنية الحالية تعادل أقل من 1 في المئة من متوسط الراتب الشهري لموظفي القطاع العام في البحرين وقطر والسعودية والإمارات، بالمقارنة مع نحو 3 في المئة في الولايات المتحدة و11 في المئة في بريطانيا.

أما الجانب السيء لهذا التدبير فهو أن ارتفاعاً معتدلاً في الأسعار قد لا يؤثر بشكل ملموس في عادات القيادة الشخصية ما لم يترافق مع حملات تنظيمية وتوعوية. وستكون المؤسسات التجارية التي تمثل الطاقة حصة جوهرية من دخلها أكثر استجابة. على سبيل المثال، تدفع شركات النقل والمزارعون أقل مما تدفع العائلات ثمناً للديزل. وإن ارتفاعاً تدريجياً من 6 أو 8 سنتات (من 22 إلى 30 هللة) لليتر في السعودية الى السعر المعتمد في الإمارات والبالغ 65 سنتاً لليتر، سوف يشكل صرخة منبهة لاعتماد مزيد من الممارسات الكفوءة.

من نفايات إلى فرص عمل

ليس هناك بلد في العالم يقدّر بالشكل الكافي موارده الحيوية كلها، مثل المياه والغذاء والطاقة والهواء النقي وتنوع الحياة الحيوانية والنباتية. هذا يعني أن المؤسسات التجارية والحكومات ما زالت تعتمد سياسات غير حكيمة في حق الأجيال القادمة والحالية. لكن هناك اعترافاً عالمياً متزايداً بأننا نتجاهل قيمة مواردنا بشكل يعرضنا للخطر.

في الخليج، يخلق انعدام الكفاءة وكمية النفايات المتولدة بوتيرة مرتفعة فرصة هائلة على الصعيد المالي وعلى صعيد توفير فرص العمل. وتظهر أبحاثنا ومحادثاتنا مع مجموعة كبيرة من الخبراء وصناع السياسات ورجال الأعمال المحليين والدوليين، أن هناك استجابات ابتكارية متوافرة للحكومات كي ترسم مساراً استهلاكياً أكثر أماناً. وقد بدأ البعض سلوك مثل هذا المسار وتقديم أمثلة قيمة لجيرانهم.

إن الصراحة في مناقشة دعم أسعار الغذاء والمياه والطاقة في منطقة الخليج هي تقدم محمود. لكن التحدي يتطلب أيضاً صيغة جديدة مبنية على مصالح وطنية، مثل خلق فرص عمل مستدامة، ورعاية أصول وطنية كالمياه والنفط والغاز والهواء النظيف والحياة البحرية. إن نقطة الانطلاق هي معرفة كمية ما يفقد ويهدر ويضيع من خلال نظم الإنتاج والاستعمال الحالية. ومن هنا يمكن للمجتمعات أن تناقش كيفية توزيع الدعم الحكومي بمزيد من العدالة.

العدد 4269 - الخميس 15 مايو 2014م الموافق 16 رجب 1435هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً