قبل مئتين وواحد وأربعين عاماً من اليوم، الخامس عشر من مايو، وُلِدَ شخصٌ مهم لعالَم السياسة، وكان له دور محوري في «القارة المتخاصِمة». إنه الأمير كليمينس فينزيل فون مترنيخ، السياسي النمساوي الأبرز خلال القرن التاسع عشر، وعَرَّاب «الوفاق الأوروبي» وباني التوازن السياسي الذي ساد أوروبا منذ العام 1815 وحتى الحرب العالمية الأولى العام 1914.
عُيِّن مترنيخ وزيراً للخارجية ومستشاراً للإمبراطورية النمساوية – المجرية، وبقِيَ في منصبه مدة تسعة وثلاثين عاماً. ارتبط اسمه بالتحالف الرباعي (أو السداسي) الذي هَزَم إمبراطور فرنسا نابليون بونابرت في لايبزيغ العام 1813، وأيضاً تأثيره على مجريات مؤتمر فيينا بين عامي 1814 – 1815 الذي حَكَمَت قراراته أوروبا طيلة مئة عام تقريباً.
ليس الرجل ملاكاً بعد أن وقَفَ ضد الثورة الفرنسية وغيرها من الثورات الأوروبية، وأيَّد تقييد الحريات بحجة خوفه من انفلات العرقيات الكامنة، إلاَّ أن ما يعنيني فيه، هو قدرته على تشييد سياسة خارجية هادئة، وتوفيقية، وتصالحية، لبلاده في أوروبا، حيث أفضت تلك السياسة إلى تعزيز السلم بين الدول المنتصرة والمهزومة معاً كفرنسا.
ربما كانت الحرب بين كل من بروسيا والنمسا، ثم الحرب بين كل من فرنسا وبروسيا حَدَثيْن مُنغِّصَين للوفاق الأوروبي في تلك الفترة، إلاَّ أن الأصل كان للسلم الذي دام واحداً وخمسين عاماً قبل النزاع الأول، وخمسة وخمسين عاماً قبل النزاع الثاني. وكان ذلك يعتبر حدثاً مهماً في قارة مزقتها الحروب والصراعات منذ القرن الثالث عشر (أو حتى ما قبل ذلك).
ما يهم هنا، هو أن نستعرض شيئاً من الذاكرة، كي نستفيد من التجربة، التي سبقتنا بمئتَيْ عام. فإذا ما قدرنا أوضاع ذلك الزمان، حيث الهوية لم تتبلور بعد، والدولة الوطنية لازالت تتثاقل ما بين الرجعية والثورية، وإيجاد تسويات للخلافات العرقية، وبين حالنا «شبه المحسوم»، فإن الحال يقتضي أن نكون أكثر وعياً من ذلك الزمن. فقرنان كفيلان بأن يجعلا منا أكثر إدراكاً لما حولنا. فعلوم السياسة تطوّرت، وأصبحت أكثر وضوحاً، بسبب النظام التكنولوجي والتقني المتقدم، الذي جعلنا نرى الجغرافيا جيداً، وندرك مصالحنا جيداً، ونقيس المشتركات جيداً. وبالتالي، أصبحت الحجَّة علينا دامغة، وفي الوقت نفسه المسئولية كبيرة، في أن يكون هامش الخطأ أقل بكثير عن السابق، في ظل التحولات.
في هذا الإقليم الذي قَدَّرَ الله لنا أن نولَدَ ونعيش فيه، يستحق من الجميع أن يجعلوه أكثر سكينةً وهدوءًا. السياسات الخارجية التي تعتمل في جوفه وحوله وبشأنه اليوم هي في أغلبها سياسات متوترة. وحين يتحكَّم جوٌ كهذا في مكان ما، فإنه يفضي عادةً إلى أوضاع مشدودة، لا تنتظر الفرص للتقارب بل لتسجيل نقاط في ساحات الغير، وكأنه نصرٌ، في حين أنه وهمٌ زائف.
عندما التقيتُ بالوزير المسئول عن الشئون الخارجية بسلطنة عُمان يوسف بن علوي بن عبد الله لإجراء حوار صحافي معه (نُشِرَ في «الوسط» بتاريخ 12 إبريل 2014)، قلتُ له يا معالي الوزير، أنتم في عُمان تطبقون مسلك: «لا استعراض في السياسة، ولا التزام أكثر من المتاح»، وهو أمر غاية في الأهمية، لأنه يعزز «الحلول الجماعية، ويرفض سياسات القوة» ويطرح مبادرات التوسُّط بين المتخاصمين.
نعم، لا منفعة تُذكَر في سياسة خارجية تعتمد على النفخ والدَّف، وكأننا نحوط بنار لا نريد لها أن تنطفئ. ما يجب في مِقوَد السياسة الخارجية هو الإيمان بالجغرافيا كما الإيمان بالمصالح. وما يهم أيضاً هو أن «نجد حقيقة تكون حقيقية بالنسبة لنا» كما كان يقول الفيلسوف واللاهوتي الدنماركي سورين كيركغارد. ننَسج علاقات مع الجميع فلا نكون مع أحد ضد أحد، ولا راية في معارك الآخرين، في زمن كَثُرَت فيه الرايات والجبهات العدمية.
وقد أثبتت التجربة، أن الدول التي تعتمد على منهج الحلول الجماعية ووفاق الإقليم، وفض النزاعات، وتحييد القوة، تتحول إلى جهة توزَن بها شئون السياسة ومتاعبها، يقصدها كثيرون، ويثق بها آخرون، ويأمن لها المتخاصمون. كما أن التجربة علمتنا أيضاً، أن ما يُجنَى من سياسة خارجية متوترة، لا يزيد عن تصدُّع في الأمن والاقتصاد.
هناك جانب آخر من الموضوع، وهو أن السياسات الخارجية المتوازنة والعاقلة، عادة ما تنعكس حتى على دواخل الدول، بحيث يترشَّد الحكم ولو بشكل متدرج. فأمر الحكم، ليس أن تَسُوسَ الناس، بل كيف تَسُوسهم. فالقوة متواجدة، لكن الوجود هو للحكمة. وهو تماثلٌ مع حكمة «الخارج» عندما تتعامل مع الآخرين، وتنْظم مصالحك معهم.
هذا الأمر حصل في الإمبراطورية النمساوية – المجرية أيام مترنيخ، أو على أقل تقدير، نادت به حتى القوى التي لم تكن تؤمن بالتغيير، حتى جاء العام 1848 ليفرض على عموم أوروبا واقعاً سياسياً واجتماعياً وحقوقياً مختلفاً. وحصل في دول أخرى، تحولت وفي عمر قصير إلى دول رشيدة، وذات استيعاب اجتماعي وسياسي ينم عن حكمة وبُعد نظر.
في المحصلة، فإن منطقة الشرق الأوسط، وما بها من وحدة ترابية وتاريخية ولغوية وثروات ومضايق وموقع... يفترض أن تكون حذرةً جداً، وأن ترعاها سياسات خارجية حكيمة، بعيدة عن التوتر.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 4268 - الأربعاء 14 مايو 2014م الموافق 15 رجب 1435هـ
مميز أنت دوما
يلم قلمك استاذي الحبيب
دور عمان الاقليمي بسياستها الخارجية العاقلة
اليوم بات الاعلام يتحدث عن وساطة عمانية بين السعودية وإيران وهو ما يؤكد على حكمة السياسة العمانية ومنهجها المعتدل
متابع
همسات عن تفاهم سعودي ايراني يتشكل بعد دعوة سعود الفيصل لنظيره جواد ظريف لزيارة الرياض ، نرجوا للكاتب أن يتناولها . . . . . أيضا هناك موضوع نرجوا للكاتب أن يكتب فيه : ماذا لو كان المتشددون قد فازوا في ايران ؟ كيف كان سيكون الحال ؟ هل كانت ايران سنحتمل تشددا أكثر مع الخارج وعقوبات اقتصادية تكلفها 90 مليار دولار أو أكثر ، و استمرار التطاحن و الكبت الداخلي ؟ ...... همسة أخيرة : الصراع بين روحاني والحرس الثوري ومعهم المتشددين ماذا عنه وإلى أين سيصل ؟
اليس في القو رجل رشيد
بلى فيهم الرشيد ولكن لا يحبون الناصحين. عجيب امر العرب وكانما خلقوا ليحتربوا ويشعلو الحروب وليس ليكونوا خير امة اخرجت للناس تامر بالمعروف وتنهى عن المنكر (تامر بالمعروف وليس إثارة الحروب). نعم عندما تأخذنا العزة بالاثم تعمينا عن الاصغاء لصوت العقل أو نصح الناصحين. كم صرفت من اموال في هذه الحروب العبثيه والتي لم نجني من وراءها غير الدمار وكان بالامكان ان تعمر جميع بلدان العرب والمسلمين بل والعالم لو صرفت في وجهها الصحيح، وكم كان سيكون نفوذ العرب في العالم، فيما هم الان في ذيل الامم بسبب هذه الحرب
تحية الصباح لك
مقال مزج التاريخ بالثقافة بالسياسة. دائما متميز استاذ محمد