في بعض الأحيان تجبرك الظروف على تأجيل حلمك أو استبداله بآخر أقرب إليه. وهو ما حدث للشاعر الكبير محمود درويش الذي كان يحلم أن يكون رساماً، ولكنه تخلى عن حلمه لأن الفقر حال بينه وبين هذا الحلم.
الفقر الذي جعله لا يجد ثمن ألوان وفرشاة، لكنه كان يجعله قادراً على شراء قلم، فلم يبقَ مكانه يندب حظه، بل استبدل الرسم بالشعر الذي كان نوعاً آخر منه، فبالألوان يمكن للرسام أن يرسم لوحات تعبر عن خياله أو واقعه باستخدام فرشاة، فيما يذهب الشاعر برسم واقعه وواقعنا معه، رسم خياله وخيالنا معه بالكلمة التي تجعل المتلقي يرسم ألف لوحة ولوحة. فبرع درويش في أن يرسم لوحاتٍ بالملايين حين جعل القراء يتخيلون ما يخط بقلمه ونبضه ويرسمون بفضلها لوحات ذهنية كثيرة.
ودرويشنا ليس إلا واحداً ممن لم يُثْنِهم الفقر أو تجبرهم الظروف على الوقوف مكتوفي الأيدي أمام الطاقات الكبيرة بداخلهم، بل سعى إلى أن يكون متفرداً؛ أن يكون اسماً لامعاً يخط أحلامه ويحققها واحداً تلو الآخر، حين كان يصدر ديوان الشعر تلو الآخر، ويقيم الأمسية تلو الأخرى، ويكون سبباً في غناء كثير من قصائد راقت لنا بصوت مارسيل خليفة مثلاً، ورؤية كثير من اللوحات التشكيلية التي رسمها كبار الفنانين ومبدعوهم من وحي كلماته.
ما حدث لدرويش حدث لإحدى الصديقات، حين كانت تحلم بدراسة الطب، ولكنها تخلت عن هذا الحلم بسبب ظروف أسرتها المادية، فقد كانت والدتها الأرملة مجرد ربة بيت تحاول جاهدة أن توفر لقمة العيش لأبنائها الثمانية، ولا يمكنها توفير عشرات آلاف الدنانير كي تحقق ابنتها حلمها، فتظاهرت بكرهها لهذه المهنة عندما وصلت السنة الأخيرة في الدراسة بعد موقف حصل لها في حصة التشريح، كي لا تؤذي مشاعرها والتحقت بكلية إدارة الأعمال التي حصلت منها على درجة الدبلوم في المحاسبة؛ بعد أن كان خيارها الثاني بعد الطب وهو الإعلام غير مدرجٍ ضمن التخصصات الأقل سعراً في جامعة البحرين فأجّلت حلمها بدراسة الإعلام إلى بعد عشر سنوات من تخرجها من الثانوية ودرسته في إحدى الجامعات الخاصة، بعد أن تعذر عليها دراسته في جامعة البحرين لكونها تحمل شهادة المحاسبة منها، وهي اليوم إعلامية تعمل في أكثر من جهة.
أن تحيد عن حلمك مجبراً لا يعني أنك ستفشل، خصوصاً حين تكون قادراً على اختيار ما يتناسب مع أهدافك وقدراتك ومواهبك، فكل امرئ يتمتع بموهبة إن لم يكن أكثر، وعليه اكتشافها وصقلها والعمل على تطويرها، لتكون له وظيفة مستقبلية بعد أن تكون دافعاً لدراسة جامعية تعزّزها وتقوّمها على أسس علمية. وهو ما يؤكد أن الحياد عن الحلم مرغماً أحياناً، يكون في صالح الفرد، إن هو أحسن اختيار البديل، ولهذا لا يجب علينا أبداً أن نيأس حين لا نجد لأحلامنا مخرجاً يحيلها واقعاً.
إقرأ أيضا لـ "سوسن دهنيم"العدد 4268 - الأربعاء 14 مايو 2014م الموافق 15 رجب 1435هـ
شكرأ شجرة الأمل
شكراً للقلم الواعي الراقي دائماً
يا سلام
يا سلام مقال جميل