العدد 4268 - الأربعاء 14 مايو 2014م الموافق 15 رجب 1435هـ

تتهدَّم البلدان بالإنسان الآيل للسقوط

جعفر الجمري jaffar.aljamri [at] alwasatnews.com

-

في الهدْم لا عناء. ذلك من تكرار القول لفرط المعاينة والممارسة وتكرار الهدم، في ما يشهده العالم اليوم من سياسات. كأن أصحابها والذين يقفون وراءها جاءوا إلى هذا العالم لممارسة ذلك الدور على أكمل وجه.

هل في الهدْم كمال؟ أصحاب المواهب تلك يرون كمالهم فيما يهدمون. في ما يجعلونه قاعاً صفْصفاً! لا موهبة يمكن أن تقدّمهم إلى العالم بغير تلك الصورة وما بعدها!

من عبقرية الإنسان الشيطانية أنه اهتدى لأدوات وآلات هدم تختصر الزمن! في الوقت الذي اهتدى لأدوات وآلات مهما تسارعت لن تصل إلى موهبة وبديهة الهدم وفوضاها وعشوائيتها، وفي المحصّلة النهائية، شهوتها التي لا مجال لوضع حد لها؛ بالنظر إلى طبيعة انحدار واحتقار الإنسان لقيمته ونفسه، والشاهد يكمن في استماتته في البحث عمّا يجعل قدرته وطاقته على الهدم تصل إلى ما هو أسرع من ارتداد طرْف الذين بيدهم أزرار وصفات الهدم والدمار في هذا العالم!

مع كل تلك الشهوة في الهدم؛ تعاقبت الإنسانية على تحولات مدهشة، الحروب لا تحتاج سبباً كي تشتعل وتمتد داخل الحدود وخارجها. وقتها كانت الموارد شحيحة ومحدودة، تبعاً لمحدودية الخيال والعقل، وتبعاً لحاجات العصور المحدودة أيضاً وقتها. كثرت الموارد اليوم وتعدّدت، فتعدّدت أسباب ومبررات وكذلك المداخل لتلك الحروب (الهدم)، ولكن المخارج لن تكون بتلك السهولة!

ومقولة النفّري: «كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة»، قالها في زمن بلا رؤية. في زمن يضيق من العبارة كما يبدو. تلاحق الحروب، والانسجام مع الوحشية والتخلف لا يكشف عن اتساع في الرؤية؛ بل ينحاز إلى الشق الثاني مما يشبه «هلوسة» النفّري؛ بحسب طبيعة الزمن وقتها، والذي لم يتغير كثيراً إذا ما تمعنّا في تنامي الوحشية واتساع رقعتها! ومثالية النفّري المبكّرة في بيئة بينها وبين المثالية تلك كالذي بين من يحيون على الغزو والهدم وحرق ما بعد اليابس لا الأخضر لمن استطاع من أولئك سبيلاً، وبين الذين كانوا مشغولين بعلم التشريح والتحنيط ووضع أسس الدولة المدنية يوم كان العالم لم يتخلص بعد من آثار وارتدادات «الغابة» التي كان ينتمي إليها، باعتبارها حاضنته الأولى!

والذين يهدمون للهدم ذاته، لن تجد بينهم مطمئناً؛ ستجده رهين خوف ما، وقلق ما، ومن وراء ذلك كله ستجد فشلاً يأخذ بما تبقى من عقل فيه، وما تبقى من قدرة على تحصين نفسه من ردود أفعال يريدها - من حيث يعي أو لا يعي – أن تأخذه إلى البدايات التي يحب، فيجد نفسه فيما بعد النهايات، وما بعد الخسارات، وما بعد النسيان!

والذين يتصدّون للهدم، لا تخلو أنفسهم وذواتهم من خراب في الداخل. لن تخلو من تصدّع وتهتّك وفي نهاية المطاف، هشاشة لا تحتاج مع مرور الوقت إلى من يُعمل أدواته ومعاولَه كي يكشف عن هشاشتها ووهنها. الزمن سيتولى ذلك، وعوامل التعرية بأوجهها التي نعرف والتي لا نعرف، ستقوم بالمهمة على أكمل وجه!

ثم إن الذين خلدوا في ضمير الزمن والناس، ليسوا أولئك الذين تصيّدوا وكمنوا لكل إنجاز كي يوردوه نهايته وإرجاعه من حيث بدأ أو جاء، بالهدم والنسف والتشويه وتحضير البيئات من حوله كي تنقضّ على ذلك الإنجاز.

من خلدوا، أولئك الذين أوقفوا أعمارهم وملكاتهم ومواهبهم وعبقريتهم في طريق بناء الذوات والأرواح والأنفس من حولهم. أولئك الذين لم يمسسهم سوء ولا عنَتٌ بنكران فائض من حولهم، وتضييق وخنق ومصادرة وتحجيم. عينهم على المجموع البشري من حولهم، سعياً وراء التخفيف من تعاسته وبؤسه وعذاباته.

لا يبيعون الناس ما يظنون أنهم سيحصدونه بعد عام، أو سمكاً هو في حريته! أولئك هم في الخلود؛ إذ لا يد تطوله هدماً أو خراباً أو فرض إقامة جبرية عليه، أو تحديد المسارات والأمكنة التي يمكن لها أن يتحرك فيها، رصداً من الأعين وملحقاتها؛ بدءاً بآلات المراقبة ومنظومتها، وليس انتهاء بعقاقير الاعتراف القسري!

في نهاية مبحث له بعنوان «اللاّشيء الأكثر سلطة وقوة من أي شيء» لأدونيس، يختمه بسؤال: «تُرى، أهناك بلدانٌ - كما تتهدّم الأبراج، تتهدّم هي كذلك؟

السؤال في حدّ ذاته يورّط بلداناً في إجابتها وكذلك تجاهلها! فقط، لا يحدث مثل ذلك التهدّم إلا بتآكل الإنسان. بالإنسان «الآيل للسقوط»!

إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"

العدد 4268 - الأربعاء 14 مايو 2014م الموافق 15 رجب 1435هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً