عاشت البحرين بطوائفها المختلفة منذ القدم في سلام ووئام ومحبة، وعدم الانجرار إلى متاهات التمزق والتناحر والإقصاء. ففي عصر الجاهلية كانت البحرين تعد مثالاً رائعاً للوحدة والترابط، وكان يعيش على أرضها جماعات من مختلف الأديان السماوية والوضعية، إضافة إلى وجود عبدة الأصنام والأوثان، إلا أنهم جميعاً يعيشون في تسامح تام ووحدة لا تفرق بينهم الأديان أو الأجناس. وكانت روح العدالة والمساواة سائدة لا تميز طائفة عن أخرى.
وعندما بعث أشرف الخلق محمد (ص) برسالته السماوية دخل أهل البحرين الإسلام طواعية وعن قناعة، وبقيت فئة قليلة على ديانتها، إلا أنهم عاشوا أخوة متحابين مع من نور قلوبهم الإسلام.
لقد أصبحت البحرين منذ دخولها الإسلام بلد العلم والعلماء، الأمر الذي زاد من تطور المجتمع البحريني آنذاك، وأدركوا من خلال العلم أهمية الوحدة والترابط. ويذكر الشيخ محمد علي التاجر في كتابه الذي ألفه في أوائل القرن العشرين تحت عنوان «عقد اللآل في تاريخ أوال» تقدم البحرين العلمي بقوله: «كانت البحرين في القرون الوسطى ذات معارف عالية وسوق العلم فيها رائجة، وفطاحل العلماء وجدوا فيها بكثرة متناهية، فلا تكاد تخلو بلدة أو قرية من وجود عدة منهم فيها. ولكل واحد منهم مدرسة ملاصقة للمسجد الذي يصلي فيه، يلقي فيها الدروس والأبحاث على تلاميذه. وقد تخرج من هذه المدارس الجم الغفير من العلماء الفضلاء الذين سارت بذكرهم أقاصي البلدان وكانت تدعى بدار العلم».
تلك المدارس أنجبت مجتمعاً لا يعرف الطائفية، بل إن أبناء البحرين لم يعرفوا الطائفية على مر العقود منذ دخول أهلها الإسلام، وكانت كلمة «الطائفية» غريبة عليهم وخالية من قاموسهم اللغوي. وعندما بدأ التاريخ الحديث يتشكل في البحرين ازدادت عرى المحبة والمحافظة على النسيج الوطني بين الطائفتين الكريمتين شيعة وسنة، الأمر الذي أدى إلى انصهارهما في بوتقة واحدة.
وعندما بدأت الحركات الوطنية تأخذ مكانها اعتباراً من عشرينيات القرن الماضي، كان هدفها الأهم المحافظة على الوحدة الوطنية والارتقاء بها. وقد جسدت حركة الخمسينيات من القرن العشرين مفهوم الوحدة بأجلى صورها، خصوصاً أن سنوات الخمسينيات شهدت بروز رواد حركة التنوير في البلاد، فقد تأسست على أيديهم صحافتنا المحلية والتي منها «صوت البحرين»، و»القافلة»، و»الوطن» و»الميزان». ونادت جميع تلك الصحف بالوحدة ورص الصف وعدم الانجرار وراء الأفكار الطائفية التي هي معول هدم الوطن.
لقد تصفحت وبإمعان كبير معظم صحفنا التي صدرت في السابق، ومنها «جريدة البحرين» للصحافي الكبير عبدالله الزايد التي صدرت العام 1939 واستمرت حتى العام 1944، وكذلك صحف الخمسينيات فلم أجد قلماً طائفياً بها. ويبدو أن القائمين على تلك الصحف كانوا من المحاربين والنابذين للطائفية. ومن يقرأ افتتاحيات صحافتنا في عقدي الأربعينيات والخمسينيات لرواد صحافتنا الماضية من أمثال عبدالله الزايد، ومحمود المردي، وحسن الجشي وغيرهم، يرى الروح الوطنية المنادية بالوحدة ظاهرة للعيان.
فقد كتب أحد رواد حركة التنوير في تاريخ البحرين الثقافي، حسن جواد الجشي، مقالةً في مجلة «صوت البحرين» نشرها في العدد الثاني الصادر في ذي الحجة سنة 1369هـ/ 1950م، بعنوان «الطائفية علتنا الكبرى» وتحت اسم مستعار «ابن ثابت»، هاجم فيها دعاة الطائفية في تلك الفترة، وأنهى مقالته بعبارات رائعة تصلح لكل زمان حيث قال: «لقد تحدثت إلى كثير من شباب السنة والشيعة، ناصحاً بالإقلاع عن هذه النزعات الطائفية الهدامة، فوجدت كل فريق يحاول أن يضع اللوم على الفريق الآخر. وكلمتي الأخيرة إلى هؤلاء: ليبدأ كل منكم بتطهير نفسه من رجس هذه النزعات، وليكن مثلاً حياً على حب التعاون والإخاء في أعماله وأقواله، وسيجد أنه سرعان ما يجمع حوله كثراً من الرفاق المعجبين بإخلاصه وصفاء قلبه. وهكذا تتسع دائرة التعاون ويسود الوفاق. وخلاصة القول: لم يكن الرسول شيعياً ولا سنياً وإنما كان مسلماً فليكن كل منكم مسلماً ثم ليكن شيعياً أو سنياً بعد ذلك، فإن روح الإسلام الحقّة كفيلةٌ بتصافيكم وتدانيكم. وكونوا مجتمعاً متراصاً، لا جماعات متنابذة متخاذلة إذا شئتم لأنفسكم حياةً كريمةً عامرةً. وكفانا تباغضاً يا قوم!».
السؤال الذي يطرح نفسه اليوم، لماذا لا يتحمل القائمون على صحافتنا المحلية في الوقت الحالي نفس المسئولية التي تحملها القائمون على صحافتنا في الخمسينيات من القرن الماضي، حيث كانت تتجلى الروح الوطنية النابذة للطائفية والمنادية بالعدل والمساواة وعدم التفرقة في مقالاتهم؟
ولماذا تفتقر صحافتنا المحلية في الوقت الحاضر إلى المقالات التي تطالب بالوحدة ورص الصف؟ وهل أن أقلام اليوم عاجزة عن ما غطته أقلام الخمسينيات؟ تلك الأسئلة أتركها للقائمين على صحافتنا المحلية.
إقرأ أيضا لـ "منصور محمد سرحان"العدد 4267 - الثلثاء 13 مايو 2014م الموافق 14 رجب 1435هـ
المسئولية
نبذ الطائفية هي مسئولية تقع ع عاتق الجميع وبالخصوص من هم قريبون من أجهزة الاعلام المؤثرة كرئيس جريدة ووزير أعلام ووكلاء مساعدون.