عادةً ما تُحدث الضربات المفاجئة على الرأس من أثر مباشر أو متأخر، بحسب نوع وقوة الضربة. وفي الواقع المجتمعي السياسي البحريني، وبسبب الضربات المتتالية على رؤوس الجميع منذ حوالي ثلاث سنوات ونصف؛ ونظراً لعدم قدرة أي من الطرفين على تحقيق نصر ملموس في الحاضر، فقد جاء تأثير هذه الضربات في توجيه الأنظار والالتفات إلى الماضي والتاريخ بحثاً فيه، إما، عند الطرف الشعبي، للبحث عن مواضع فخر وعزة وتسجيل نقاط انتصار ما على الآخر، أو عند الأطراف الأخرى، لإعادة صياغته من جديد وسد فجوات الفخر والعزة للآخر، ولا يهم إن تم ذلك باستبدال الطلاء الأسود بالأبيض، أو الأبيض بالأسود!
وفي سياق ما أشرنا إليه في المقال السابق، حول تبني نظرية القُبح والحُسن عند بعض الأقلام في تناولها لأي مجال من مجالات التاريخ والعقيدة، لأن تلك النظرية تشكل أهم مبانيهم الفكرية التي تشربوا بها وتربوا ويعيشون عليها، وستبقى كذلك ما لم يفكّر أصحابها من ذاتهم بالتغيير؛ نشير إلى بعض النقاط بشكل مختصر.
لا نختلف مع أحدٍ بأن الكتابات التي يقوم بها بعض الأجانب عن البحرين يحالفها بعض الصواب في بعضٍ الاجتهادات، كما قد يعتريها الخطأ الكامل أو عدم الدقة في البعض الآخر، لكن أن يتم ذلك على يد أقلام بحرينية فهنا الاستغراب حقاً.
فقد قام البعض مؤخراً بالتصدي، تعليقاً وتحليلاً، من وجهة نظر أحادية صرفة، لبعض كتابات هؤلاء الأجانب التي أشرنا إليها. فنقرأ لهم وصفاً لكتابي (James Onley، وNelida Fuccaro) بأنهما علامة فارقة في حقل الكتابة التاريخية الجادة والرصينة عن البحرين. وليكن ذلك، إلا أن هذا الحكم العلمي، إن صح التعبير في نهاية الأمر، هو حكم شخصي جداً يحتمل الصح والخطأ، وهو حجة على صاحبه وليس على الآخرين!
وليس هذا مورد إشارتنا، بل سنقف عند بعض ما ورد في أحد هذين العملين، وهو للمؤلفة (Fuccaro)، فما قيل، في العمل، عن ندرة المصادر التاريخية، ومحدودية التفاصيل الاجتماعية عن مدينة المنامة في مطلع القرن العشرين، كلام مرسل ليس كله صحيحاً. فدراسة فاحصة متأنية، وصبورة، لكل سجلات الأرشيف البريطاني، وكتابات أهل البحرين الأوائل ووثائقهم، التي لم تصل إليها المؤلفة، بالإضافة إلى قراءةٍ دقيقةٍ جداً لتقارير المعتمدين البريطانيين، والمراسلين، والرحالة، وما كُتب في الصحافة العربية والأجنبية؛ وهو جهد ضخم، يستطيع على إثره الباحث القدير أن يستخرج منه مادةً تكوّن صورة ربما أوسع مما نُشر على يد من لم يطّلع على مثل هذه المصادر والمراجع.
كما أن طرح، وبتغطية عمومية، موضوع مشروع الإصلاح الإداري الحكومي الذي شهدته البحرين منذ عشرينيات القرن الماضي، مثل الجمارك والأمن العام والصحة والميناء وغيرها؛ يحتاج إلى سؤال وهو: من كان وراء هذا الإصلاح؟ فإذا كانت المنظومة الاستعمارية البريطانية، والبعض يكره الحديث عنها، فلماذا يشيرون إليها إذاً، والإصلاح يُنسب لها وليس لغيرها؟
فذاك الإصلاح الإداري الحكومي جاء كما هو موثق تاريخياً، للأسف، على يد كبار البريطانيين باسم سلطة الحماية التي رسّخها الوجود «الكولونيالي» وما نسبته لبعض الشخصيات السياسية من هنا وهناك، ضمن ذاك الوجود المدعم عسكرياً وبقوة سلطة المستعمر، إلا من باب حكاية أخوة يوسف ومسئولية الذئب عن مقتله!
على فكرة، لأني لم أعود القراء على المصطلحات العلمية الغريبة عليهم، فإن «الكولونيالية»، كما يفسرها بعض المتخصصين ببساطة، هي الاستيلاء بالقوة على الأرض والاقتصاد والهيمنة، وإعادة هيكلة الاقتصاد غير الرأسمالي من أجل دعم الرأسمالية الأوروبية. فهي إذاً تتجسّد في مفهوم الاستيلاء، ثم إعادة الهيكلة، ومن ثم ترتيب المجتمع كما يريده المستعمر، أو «الكولونيالية» الأوروبية الحديثة.
وهل إذا ذكرت (Fuccaro) أو غيرها، بأنه لم يعد في وسط مدينة المنامة منذ الاستقلال أي وجود لمنامة (هيئة الخمسينيات)، ولا حتى الجذور الشعبية التي دشنت عمليات التعريب، والثقافة والسياسة الوطنية البحرينية؛ أن هذا التصور، الذي تبناه بعضهم، هو الحقيقي فعلاً، أم الصورة بخلاف ذلك، وكانت صعبة الإدراك على الكاتبة، وليس على أهل البحرين.
ثم إن مراجعة الوثائق البريطانية في سجلات البحرين، لا تؤيد ما ذهب إليه البعض، وهو يقرأ، بعين الحُسن فقط، من أن عقوداً بعينها شهدت قدراً متزايداً من الاستقرار السياسي. ولهم أن يسألوا المعتمدين السياسيين البريطانيين في البحرين عن تلك السنوات أمثال، (بريدو، ماكنزي، نوكس، لوريمر، تريفور، كيز، ستيورات، لوخ، براي، ديكسون، باريت، وكلايف ديلي، وغيرهم)، وأمثالهم من المقيمين السياسيين البريطانيين في الخليج الممثلين للـ «الكولونيالية»، كميد، وكوكس، وأرنولد ولسون، وبريدو، وسواهم، ثم يقوموا بقراءة واعية، بعينين بصيرتين وببصيرة قلبية وعقلية، لكل تقاريرهم ومؤلفاتهم، ثم يطرحوا بعدها آراءهم القيمة حول تلك العقود.
كما نشير للنقطة الأخيرة، في أن استبدال كلمة هجوم، بأخرى لا توصف الحالة التي تمت فعلاً في بحرين القرن الثامن عشر، عندما تكالب عليها الطامعون من كل حدب وصوب، ولا تغيّر من الواقع التاريخي شيئاً، وليس لها علاقة أبداً بتشكل الحالة السياسية والتاريخية للدولة والمجتمع في البحرين مع بداية القرن.
ثم أن كتاب المدعوة (Fuccaro) ليس مكتشفاً عظيماً وقع في يد البعض مؤخراً فاتخذوا من بعض أجزائه سلماً لنيل بعض الدرجات، متناسين أن مقابل كل الدرجات هناك أيضاً دركات لابد من الانتباه لها حيث لا يشفع فيها منهج القبح والحسن المتبنى هنا. وإلا لماذا لم يتم الإشارة، تعمداً لا إدعاءاً للموضوعية، من قبل هؤلاء، إلى ما ذكرته المؤلفة نفسها بوضوح، في الفصل الأول، عن الاستنزاف الذي تعرّضت له الأراضي الزراعية في البحرين، وضياع حقوق أصحابها الفلاحين البسطاء، وتحوّلهم بين ليلة وضحاها من أصحاب الأرض إلى اُجراء فيها. وما ذكرته المؤلفة عن نظام «الرقبية» وهي ضرائب الفطرة على الرؤوس، وضرائب «السخرة» الزراعية، وضرائب الريّ بالماء وتسمى «دوب».
لماذا لم يتم الإشارة ولو بشكلٍ عابر، في هذا العمل، للوضع المعيشي والاجتماعي الذي عانى منه العدد الأكبر من الفلاحين وهم يحصلون على التمر غير الصالح للأكل، والسمك المتعفّن في جزيرة الأسماك، وبلد المليون نخلة!
حقاً، من يقوم بهذا المونتاج والتقطيع لما يشاهده من عمل فني، ثم يعرض للناس ما يريدهم أن يشاهده بعينه هو فقط، حريٌّ به ألا يدّعى الموضوعية... وللحديث بقية.
إقرأ أيضا لـ "محمد حميد السلمان"العدد 4266 - الإثنين 12 مايو 2014م الموافق 13 رجب 1435هـ
مقال رائع
شكرا على هذا الاهتمام بالقراءة الواعية والدقيقة لما يكتب عن تاريخ ارضنا العريقة ، والتصدي لمحاولات تزييف هذا التاريخ المشرف ، شكرا مرة اخرى وننتظر المزيد من الكتابة حول نفس الموضوع .
شكرا لكم
بصراحة.. استمتعت بقراءة هذا المقال تسلم يمينك
صوائح
بوركتم اين ماكنتم..