يشير تعليق المحادثات الاسرائيلية الفلسطينية التي صممتها الولايات المتحدة، إلى حقيقة أعمق بكثير من العوامل المباشرة التي سببته. فالواقع هو أن عملية السلام والحل القائم على دولتين -الذي أبقي على قيد الحياة لسنوات طويلة- قد أصبح الآن جثة هامدة.
ويرى أحد كبار مسئولي الاستخبارات السابقين في وكالة الاستخبارات المركزية، والأستاذ الباحث في جامعة ولاية نيو مكسيكو، ومؤلف كتاب A Necessary Engagement: Reinventing America’s Relations with the Muslim World.(آي بي إس / 2014)، اميل نخله، في موضوع نشرته وكالة الانباء العالمية - انتر بريس سيرفس (آي بي إس) أن الوقت قد حان بالنسبة للولايات المتحدة وبقية المجتمع الدولي لوقف الجهود التي بذلت على مدى 20 عاما لإحياء "مسارا" ميتا، والبدء بجدية في استكشاف سبل أخرى للتعايش الإسرائيلي الفلسطيني بين نهر الأردن والبحر الأبيض المتوسط.
فحتى الآن، كان حل الدولتين بمثابة سياسة ملائمة أتاحت استئناف المفاوضات مرة بعد مرة، انطلاقا من الحجة القائلة بأنه لا توجد بدائل أخري ذات مصداقية. وراهن العديد من الحكومات والدبلوماسيين والمفاوضين، والسياسيين، والأكاديميين، والمنظمات غير الحكومية، والاستشاريين على جانبي المحيط الأطلسي وفي المنطقة، بورقة أنشطتهم ووظائفهم على النموذج القائم على حل الدولتين.
كما تم التوقيع على عشرات من الاتفاقيات والبيانات والإعلانات، وعقدت الآلاف من الاجتماعات الدولية في جميع أنحاء العالم، بشأن يسمى طرائق حل الدولتين. وللأسف، جاء كل ذلك بلا جدوى علي الإطلاق.
بل وكلما شكك أحد في نهج حل الدولتين بمرور السنين، سارع المدافعون عنه إلي السؤال: "ما هو البديل؟"، مع إستبعاد إقتراح خيار "الدولة الواحدة" وخيارات مماثلة، باعتبارها غير واردة. والحجة كانت دائما أن لا حكومة إسرائيلية تجرؤ علي التفكير في أي مقترح ينطوي على التعايش بين الإسرائيليين والفلسطينيين في كيان سياسي واحد.
وفي غضون ذلك، أيد القوميون الفلسطينيون والنخب الحاكمة الاقتصادية والسياسية الذين استفادوا من ارتباطهم بهيكل سلطة منظمة التحرير الفلسطينية سواء في رام الله أو غيرها، أيدوا صيغة الدولتين على الرغم من اعتقادهم بأن أوسلو كان انتصارا أجوف لن يؤدي إلى قيام الدولة الفلسطينية. وقبلوا بهذا لأنه، في رأي أحد الفلسطينيين في ذلك الوقت، "كانت هذه هي اللعبة الوحيدة المعروضة".
كذلك، فقد ارتاحت الدول العربية المدافعة عن هذا النهج، من منطلق أنه يناسب الدول الغربية وخصوصا الولايات المتحدة. لكن حتى الآن، فشلت هذه الدول في تخصيص الموارد ورأس المال السياسي اللازمين، والسعي بجدية لدفع عجلة "مبادرة السلام العربية" حتي بلوغ غايتها المنشودة.
لقد واصل الخطاب الرسمي للقادة العرب تمجيد التزامهم الذي لا يتزعزع تجاه فلسطين، لكنهم أعطوا الأولوية لمصالحهم الوطنية المنفصلة، التي غالبا ما شملت اتصالات اقتصادية وسياسية واستخباراتية غير رسمية مع إسرائيل.
وبدورها، لعبت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة لعبة مماثلة. فكلما أجريت مناقشات جادة عن اقامة دولة فلسطينية، وضعت الحكومات الإسرائيلية شروطا و"خطوط حمراء" جديدة، الأمر الذي جعل من الصعب على القادة الفلسطينيين القبول بها.
كذلك فقد تم تخفيض المؤسسة التفاوضية برمتها الى مستوي محادثات عن المحادثات، مما أدى إلى فصل "عملية" التفاوض عن رؤية "السلام".
لقد نجح اللوبي المؤيد لإسرائيل في واشنطن في بناء موقف صلب مؤيد لإسرائيل في كونغرس الولايات المتحدة. وهذا الدعم، الذي إرتبط دائما بالسياسات اليمينية في إسرائيل، أعاق بشدة المرونة الدبلوماسية للذراع التنفيذي للحكومة الأمريكية.
وعوضا عن التسوية السياسية، قدمت الدول الغربية والأمم المتحدة برامج مساعدات ضخمة للفلسطينيين، واستفاد القادة الفلسطينيون والنخب الحاكمة-على نحو غير متناسب- من هذا السخاء، مما أدى إلى تراكم الثروات المكتشفة حديثا وتفشي الفساد. وفي غياب المساءلة الحكومية والشفافية، ليس من الواضح أين ذهبت كميات ضخمة من هذه الأموال.
كذلك، وفي حين تحدثوا في خطابهم عن حل الدولتين، لم يشعر مسئولون رفيعو المستوي في السلطة الفلسطينية بعدم الإرتياح تجاه الوضع السياسي الراهن تحت الاحتلال الإسرائيلي، إلي حد أن وصف مفكر فلسطيني هذا الوضع بأنه عملية "بيع وطني تدريجي للوطن".
لقد أيدت حل الدولتين لما يقرب من خمسة عقود. وعلى أساس بحوثي الميدانية في الأراضي المحتلة في أواخر السبعينات، نشرت كتابا بعنوان "الضفة الغربية وقطاع غزة: نحو صنع دولة فلسطينية"، دعا لأجل إنشاء دولة فلسطينية في تلك الأجزاء من فلسطين.
وكرد فعل، هاجمتني علنا شخصيات نصبت أنفسها كقوميين فلسطنيين -بما في ذلك المفاوض الفلسطيني الحالي صائب عريقات- بإدعاء أنني "أرافع عن موقف الاميركي". ووصفتني بعض صحف الخليج المؤيدة للفلسطينيين، بسخرية، بأنني "فلسطيني أمريكي ساداتي"، في اشارة إلى معاهدة سلام الرئيس المصري أنور السادات مع إسرائيل.
وبطبيعة الحال، بعد مرور 10 سنوات، دعمت منظمة التحرير الفلسطينية رسميا النهج القائم على حل الدولتين، وقبلوا باتفاق أوسلو. وللأسف، خلصت إلى استنتاج مفاده أن خيار الدولتين لم يعد قابلا للحياة، وأنه يجب على الطرفين والمجتمع الدولي البحث عن الخيارات الأخرى التي يمكن أن تستوعب عيش الشعبين جنبا إلي جنب.
خلصت إلي هذا الموقف من منطلق إدراكي التام للحقائق والواقع القائم -الإحتلال الإسرائيلي، الطائفية الفلسطينية، ارتفاع معدلات الفقر، الإحباط بين الفلسطينيين في غزة والضفة الغربية، وفي إسرائيل- وعدم وجود بدائل ذات مصداقية للنهج القائم على حل الدولتين.
وفيما يبحث المزيد والمزيد من الفلسطينيين عن بدائل، حولوا المواجهة مع الاحتلال الإسرائيلي والتمييز ضد العرب في إسرائيل، إلى نضال اسلمي من أجل حقوق الإنسان، والعدالة، والاكتفاء الذاتي الاقتصادي. وأصبحت حملة "المقاطعة، سحب الاستثمارات، وفرض العقوبات" صيحة استنفار عالمي ضد الاحتلال الإسرائيلي واستمرار بناء المستوطنات.
ومن جانبهم، بدأ بعض أعضاء مجلس الوزراء الإسرائيلي يتحدثون علنا عن اتخاذ "إجراءات أحادية" في الضفة الغربية، بما في ذلك ضم المنطقة (C) والكتل الاستيطانية الكبرى. وفي الوقت نفسه، تواصل قوات الأمن الإسرائيلية دخول المنطقة (A) التي تحكمها السلطة الفلسطينية إسميا.
في عدم وجود دولة فلسطينية، سوف تواجه الحكومة الإسرائيلية تزايدا في تعداد السكان الفلسطينيين في غزة والضفة الغربية، وكذلك في إسرائيل نفسها، بما يمثل في المجموع ما يقرب من 50 في المئة من إجمالي السكان بين البحر الأبيض المتوسط ونهر الأردن.
كذلك فإن إدامة الحكم الإسرائيلي علي أكثر من نصف السكان من خلال الاحتلال العسكري وبدون منحهم الجنسية أو الحقوق المتساوية، سوف يحرم إسرائيل في المستقبل المنظور من أغلبيتها اليهودية، ويطمس ثقافتها السياسية الديمقراطية، ويؤدي في النهاية إلى ظروف تشبه الفصل العنصري.
ينبغي أن يبدأ المجتمع الدولي والشعبان البحث بجدية عن سبل جديدة تقوم على العدالة والإنصاف والمساواة. وهذا يمكن أن يتراوح بين إمكانية دولة وحدوية إلي تسويات كونفيدرالية تضمن تساوي الفلسطينيين في الحقوق والامتيازات والمسؤوليات. لكن كل السبل تتطلب إنهاء الاحتلال.
قد يعتبر بعض النقاد هذا علي أنه منظور مغالي في التفاؤل، لكنه ليس مستبعدا في ضوء فشل النهج القائم على حل الدولتين.