في إجازة عيد العمال هذا العام، اغتنم آلاف البحرينيين الفرصة لأداء العمرة أو زيارة الرسول الكريم... وفي مثل هذه الرحلات تكون على موعدٍ مع التاريخ.

الشعور الأول وأنت تجتاز الجسر، أنك تخرج من عنق زجاجة خانقة. تستقبلك الصحراء المترامية الأطراف والمدى الممتد بلا نهاية. تشعر بأن بلدك صغير جداً.

على امتداد 1200 كيلومتر، قليلاً ما تصافح عيناك قرى وبؤراً استيطانية. وأحياناً تشاهد بعض البيوت في قرى منعزلة، تفصلها عن بعضها مسافات متباعدة. كيف يعيش هؤلاء؟ ما هي الخدمات التي يتمتعون بها في هذه الصحراء؟ هل يصلهم البث التلفزيوني؟ هل هم على صلةٍ ببقية أنحاء المعمورة؟ هل هم على صلة بالانترنت؟ أين يتسوّقون وكيف يعيشون؟

وبالنسبة لشخصٍ مسكونٍ بالتاريخ، ينتقل بك الخيال إلى ما تختزنه الذاكرة من قصص وحكايات الأولين. في هذه الفيافي عاش قيس بن الملوح وعاشت ليلى العامرية، ومرّ امرؤ القيس والأعشى وزهير. هنا وقعت حروب البسوس وداحس والغبراء، واقتيدت النساء سبايا، والأسرى عبيداً. ومن هنا أيضاً مرّت سرايا الفتح لنشر الدين الجديد.

حين تدنو الحافلة إلى المدينة، تجتاحك الأشواق لسرعة اللقاء. يتردد في أعماقك صدى تلك الأبيات الخالدة التي استقبل بها أهل يثرب الرسول (ص):

طلع البدر علينا... من ثنيات الوداع.

جئت شرّفت المدينة... مرحباً يا خير داع.

تتخيلهم وهم متعلقون فوق هامات النخل ينتظرون مقدمه، وحين يصل يتنافسون على استضافته، ويحاول بعضهم الأخذ بزمام الناقة إلى بيته، فيقول لهم: «اتركوها فإنها مأمورة»، دفعاً لإحراج أحدٍ من محبيه، فالناقة المتعبة ستحط حتماً. وحين بركت أنشأوا في ذلك الموقع مسجد قبا: «أول مسجد أسّس على التقوى». في هذا المسجد تشعر بأنك في بقعةٍ من بقاع الجنة.

المسجد من المواقع القليلة التي تمّ الحفاظ عليها، فالكثير من المساجد والمواقع التاريخية مهدّدة بالزوال أو التغييب، مع حمّى التغيير الذي طال الكثير، كالمساجد التاريخية الخمسة التي ارتبطت بغزوة الخندق. والأمر أكثر هولاً في مكة المكرّمة، مع موجة إزالة المواقع التاريخية، واستبدالها بفنادق الخمس نجوم. وهي قضيةٌ تطرّقت لها الصحافة السعودية نفسها بالنقد، ونادى الكثير من المتهمين بالتاريخ والآثار بضرورة الإبقاء على معالم المدينة.

أسواق وحواري كاملة تم إزالتها، مكة التي تحيطها الجبال من كل جانب، تتغيّر معالمها أمام الزائر بين عامٍ وآخر. البيت الحرام أصبح في قعر الوادي تحوطه ناطحات السحاب. العمل جارٍ منذ سنوات، ولن يمر وقتٌ طويلٌ حتى تصبح كإحدى المدن الأوروبية الكبرى.

في المدينة، كان سائق التاكسي، يحدّثنا عن هذا الاجتياح الاسمنتي بحماسةٍ غريبة. تحدّث عن سعر المتر المكعب، كواحدٍ من أغلى الأراضي العقارية. يقول: انظر هذا الشارع المتعرج إلى الحرم، سيمتد إلى مسجد قبا، بعد إزالة كل هذه المنازل والمتاجر، وستقام على جانبيه الأشجار والمنتزهات. سيمكنك أن تذهب إلى قبا مع عيالك وزوجتك مشياً على الأقدام، فإذا تعبت يمكنك الجلوس وتناول الآيسكريم معهم.

تم استملاك المنازل والفنادق المحيطة بالحرم النبوي، في محيط دائرة عرضها كيلومتر واحد، حيث ستجرى عملية جراحية ضخمة. بعض الفنادق افتتح قبل عامين سيتم هدمها، وبعضها لم تفتتح بعد وكانت تنتظر توصيل الإنارة. شاهدنا عدداً من الفنادق أيضاً في طور البناء، كلها سيتم تجريفها قريباً.

المعالم التاريخية والثقافية هي الضحايا، بما فيها المكتبات، بحثت عن مكتبة في المدينة دون جدوى. كنت أريد أن أشتري كتاباً أو صحيفةً لأتابع الأخبار، فلم أعثر على نسخة إلا في اليوم الثالث ونحن نغادر المدينة في أحد محطات البترول.

تغييرٌ كاسحٌ... لن يبقي من أغلب المعالم التاريخية الأثيرة عيناً ولا أثر.