العدد 4263 - الجمعة 09 مايو 2014م الموافق 10 رجب 1435هـ

العكري في «التنظيمات اليسارية في الجزيرة والخليج العربي»...

تبدأ هذه الكتابة من حيث ما يشبه انتهاء مراحل، وابتداء مراحل جديدة مغايرة وأكثر مصيرية تشهدها منطقة الخليج العربي. الشروع في قراءة كتاب «التنظيمات اليسارية في الجزيرة والخليج العربي» للباحث والحقوقي عبدالنبي العكري، الصادر عن «فراديس» للنشر والتوزيع العام 2014، يستدعي مفارقة نعاينها اليوم بكل التفاصيل والتحولات التي تعصف بالمنطقة، وما يشبه القفز على الأزمات الداخلية، بحثاً عن المساهمة في الأزمات الخارجية.

في ظفار بسلطنة عمان حيث تمركزت التنظيمات اليسارية، وجزء منها في اليمن، حرصت عُمان على اتزان سياستها وهدوء دبلوماسيتها، والتعامل مع الملفات الداخلية بشيء من الحنكة، مقارنة بجيرانها في الخليج. امتد ذلك إلى السياسة خارج حدودها وجيرانها في الوقت نفسه، هنالك من يستطيع القول إن استقراراً يمكن لمسه ومعاينته في تلك السياسة، فيما التحولات لدى جيرانها تتخذ شكلاً وإيقاعاً درامياً لم تنج منه دولة إلا قليلاً.

الكتاب الذي قدم له الأب الروحي لجمعية العمل الديمقراطي (وعد) وهو واحد ممن ساهم في صنع تلك الحقبة، جنباً إلى جنب مع عبدالنبي العكري، لم يُخفِ جانباً لم يُشر إليه في ذلك الرصد لاعتبارات عدّة، بعض الذين ساهموا في صنع تلك المرحلة أو كانوا شهوداً على تحولاتها ارتأوا النأي بأنفسهم، ذلك النأي كان مرتبطاً أيضاً بتحولات في بلادهم. بعض منهم صار جزءاً من دائرة القرار. في عُمان شهد التشكيل الوزاري بعد منتصف الثمانينات دخول بعض الذين كانوا شهوداً ومشاركين في الجبهة الشعبية إلى الوزارة، بعض آخر كان في الصف الثاني من دائرة القرار. عُمان التي لم تعرف الاستقرار منذ ما قبل المواجهات مع الجبهة الشعبية لتحرير الجزيرة والخليج العربي، تتفرّد باستقرار نوعي لطبيعة سياستها والنفس الطويل. الأمر مع جيرانها يبدو عصيّاً ومختلفاً.

مقدمة العكري أشارت إلى أن جزءاً «من الوثائق والبيانات يمكن الحصول عليها في البوليس السري لدول المنطقة». كأنه بذلك يملك أكثر الوثائق التي لم تعد في متناول حتى الذين صنعوا الأحداث، بطبيعة الهجرات التي لا تتوقف. البوليس السري ثابت ولا يتحرك. له أرشيفه (أرشيف الإدانة) التي لم يكن في كثير من الأحيان بحاجة إليه ليسوق تلك الإدانة ويعممها أحياناً.

الكتاب يدخل في التقسيمات الطبيعية للمراحل التي سبقت قيام الجبهة، من فترة اكتشاف النفط، وخصوصاً في المناطق التي «كان لها احتكاك مع الخارج، والتي هي ذاتها مواقع إنتاج النفط»... الكويت، المنطقة الشرقية في المملكة العربية السعودية، الإمارات... وما تلت تلك المرحلة من الانسحاب البريطاني ومنح الاستقلال، وقيام مجلس التعاون الخليجي، وما يشبه الزلزال الذي هز المنطقة منذ قيام الثورة البلشفية في العام 1917، الثورة الإيرانية، فالحرب العراقية الإيرانية، وحرب الخليج الثانية، وانهيار الاتحاد السوفياتي، كلها مراحل لم تك بمنأى عن طبيعة التحولات وما تفرضه من خيارات في كثير من الأحيان.

كانت الحركات اليسارية في كل مرحلة من تلك المراحل على ارتباط بقراءة مستقبلها والتحرك ضمن المعطيات على الأرض، بعد التوقف عن الكفاح المسلح وضمن حدود جغرافية، إلى العمل على تعميق وتأسيس قواعدها في الداخل الذي لم تنفصل عنه حتى في مراحل غيابها عنها بحضورها المباشر.

في الباب الثاني من الكتاب يتناول العكري نشأة جبهة التحرير الوطني، موطداً له بنشأة الاتحاد الوطني في خمسينات القرن الماضي، وانتخاب هيئة تنفيذية له واستمرار الوجود العلني لهيئة الاتحاد حتى العام 1956، مع بدء مرحلة الاعتقالات.

كان التشكيل العلني لجبهة التحري الوطني البحرانية في فبراير/ شباط 1955، من «عناصر منتمية إلى حزب توده لجأت إلى البحرين بعد الإطاحة بحكومة مصدّق في 1954»، ودوره غير المباشر وعلاقتها أيضاً بالحزب الشيوعي العراقي، بحكم تواجد الطلبة البحرينيين هناك.

الباب الثاني يتقصّى مراحل من التحالفات والصراعات بين التنظيمات اليسارية العربية، عروجاً إلى مرحلة الاستقلال وتسوية الدعوى الإقليمية لإيران بتبعية البحرين لها وتحديداً في (14 أغسطس/ آب 1971)، مروراً بمرحلة المجلس الوطني وما برزت فيه من تعارضات وقتها، وإشارته إلى توافق الكتل في مواجهة مرسوم بقانون بشأن تدابير أمن الدولة، «الذي أصدرته الحكومة أثناء إجازة المجلس الوطني في (22 أكتوبر/ تشرين الأول 1974)، مورداً السباب التي حدت باتخاذ ذلك الإجراء، منها: الطفرة النفطية الكبيرة التي حصلت بعد ارتفاع أسعار النفط، ورغبة الطبقة الحاكمة في الاستفادة القصوى من هذه الفرصة من دون رقيب وحسيب، والاحتجاج الشعبي والبرلماني على وجود القاعدة الأميركية في البحرين، وخاصة بعد حرب أكتوبر 1973، ومرور عدد من المتطوعين من أستراليا عبر البحرين إلى الكيان الصهيوني، ومخاوف الأميركان من أن يتقدم المجلس بمساءلة حول الاتفاقية، إضافة إلى مُتغيّر في الجوار (إقليمي) في المملكة العربية السعودية بعد مقتل الملك فيصل وتسلم الملك خالد مقاليد السلطة!

وفي البرنامج العمل الوطني للجبهة في العام 1978، لم يكن بمنأى في أدبياته وصوغه عن كثير من الحركات الماركسية العربية، بالذهاب إلى الحدود القصوى من المطالبات، لخّصها في ثمانية عناصر تبدأ بالمطالبة بإعادة الحكم الدستوري، وتنتهي بفضح السياسة الأميركية في الخليج والمنطقة.

تجنّب العكري الخوض في الذاتي من تلك التجربة والمرحلة لما يكتنف التورط في ذلك الجانب من تهويل من جانب أو الانسياق إلى التأريخ للدور الفرد في حدث ومرحلة صنعتهما كيانات ومجموعات.

الكتاب يرصد خريطة وجود جبهة التحرير الوطني في كل من المملكة العربية السعودية، بتصدي الحركة العمالية في شركة النفط (أرامكو)، وصدور البرنامج والنظام الداخلي للحزب الشيوعي في السعودية في أغسطس 1975، مستعرضاً برنامجه، وصولاً إلى التجمع الوطني الديمقراطي وصدور بيان تأسيسه في (15 مارس/ آذار 1991).

في باب «تنظيمات اليسار الجديد»، يبرز عنوان: «تبلور التيار الماركسي في الخليج»، انطلاقاً من حركة القوميين العرب في الخليج، والذي كان يقاد من الكويت، وما تفرّع عن التيار: الحركة الثورية الشعبية في عمان والخليج العربي، من التاريخ لها، والمنابر التي كانت بمثابة قاعدة لإطلاق برامجها وأدبياتها، الجبهة الشعبية لتحرير الخليج العربي المحتل، الجبهة الوطنية الديمقراطية لتحرير عمان والخليج العربي، الجبهة الشعبية لتحرير عمان والخليج العربي، الجبهة الشعبية لتحرير عمان، الجبهة الشعبية الديمقراطية العمانية، جبهة الحزب العربي في عُمان، الجبهة الشعبية في البحرين، حركة الديمقراطيين الكويتيين، المنبر الديمقراطي الشعبي في الجزيرة العربية، حزب العمل الاشتراكي العربي في الجزية العربية، واختتاماً بالباب الرابع: تحولات اليسار في الخليج، وفيه يرصد ما سبق وما آلت إليه ظروف المنطقة والتنظيمات بقيام حرب الخليج الثانية، وقوفاً عند انعكاسات البيروسترويكا مع انهيار الاتحاد السوفياتي.

في أجزاء كبيرة من الكتاب لا يقدّم العكري في رصده وتاريخه تحليلاً - إلا قليلاً - في تفاصيل برامج التنظيمات من جهة، والمتغيرات التي حدثت بعد مرحلة الاستقلال وحل المجلس الوطني من جهة أخرى، بقدر ما يقدّم تاريخاً لمرحلة كان هو أحد الشهود عليها والصانعين لجانب من أحداثها، وإن كان عبر ذلك التاريخ يمكن تلمّس وقراءة خاصة متعددة ومتباينة بتعدد وتباين القناعات والاختلافات والاتفاقات حول المرحلة تلك وطبيعتها، وحتى بعض الذين صنعوها.

ما جعل الكتاب يفلت من الصورة النمطية التي قرّت في طبيعة رصد مثل تلك التنظيمات، أن صاحب التجربة نأى بنفسه عن أن يكون بطلاً ولو ضمن أبطال في التنظيم الذي كان أحد رجالاته والفاعلين فيه.

العدد 4263 - الجمعة 09 مايو 2014م الموافق 10 رجب 1435هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً