العدد 4263 - الجمعة 09 مايو 2014م الموافق 10 رجب 1435هـ

هكذا تكلم الزرادشتيون (2)

حسينية أمير چخماق
حسينية أمير چخماق

في العصر الأموي، قام الأمويون بأسلمة إدارة الدولة الجديدة بسرعة لكنه لم تكن هناك جدية في أسلمة الرعايا الإيرانيون الجدد. دفع الزرادشتيون، الذين مثلوا الغالبية في إيران، الجزية مثل بقية أهل الذمة وبقوا على دينهم، بالرغم من أنه كانت هناك ضغوطاً اجتماعية واقتصادية بطيئة لكن متواصلة لأسلمتهم. بعد 100 عام على إسلامهم، ساعد المسلمون الإيرانيون على إسقاط الدولة الأموية، ذات النزعة العصبية العربية، وإقامة الدولة العباسية ولهذا السبب لقي الإيرانيون، وبالأخص أهل خراسان، بعض التفضيل في الدولة الجديدة.

في الدولة العباسية التي اشتهرت بحربها على جميع التيارات الإسلامية الأخرى، ذابت الفروق بين المسلمين الإيرانيين والعرب، لكن الدولة كشرت عن أنيابها في وجه الزرادشتين الذين أصبحوا أقلية في إيران المسلمة. لهذا تفرق الزرادشتيون بعيداً عن الحواضر الإسلامية المهمة واستقر معظمهم في مدينة صحراوية، قليلة الماء، شديدة الحر، وبعيدة عن صخب الأحداث السياسية، هي مدينة يزد، هروباً من الضغوط لأسلمتهم. مرة أخرى تظهر يزد في المشهد الزرادشتي كملجأ! هاجر آخرون إلى كوجرات في غرب الهند، واستقروا هناك حيث سماهم الهنود «البارسيين».

في هذة الفترة الحرجة للزرادشتيين، عاشت الديانة في السر وكرّس القساوسة وقتهم في يزد لجمع وكتابة النصوص الزرادشتية القديمة التي فقدوا معظمها إبّان حريق بيرسيبولس على يد الإسكندر الأكبر. شمل كتاب «الابستا» على بعض ما قاله زرادشت، بينما حوت «الصحائف البهلوية» على شروح مفصلة للمعتقدات الزرادشتية جاءت في مجملها لتبرر وجودها وتدافع عن مبادئها أمام الأسلمة الضاغطة في زمان لا يأمن فيه غير المسلم.

مع ضعف الحكم العباسي، قامت في خراسان دول إسلامية تحكمها عوائل فارسية واستمتعت بحكم مستقل وتبعية شكلية للخليفة العباسي في بغداد؛ مثل الطاهريين 821-873م، والصّفّاريين 861-1003م، والسامانيين 819-999م. توسعت بعض هذه الدول لتشمل جميع إيران. في هذه الفترة خرج الإيرانيون على الاحتكار العربي، وانشقت اللغة الفارسية عن هيمنة اللغة العربية. عندما وصلت الجيوش التركية من شمال بحر قزوين وأقاموا دولهم في إيران (الغزنويين وسلاجقة الروم)، فإنهم سرعان ما اتخذوا الإسلام ديناً، وإيران حضارةً، والفارسية لغةً، حتى غدوا إيرانيين أكثر من الإيرانيين أنفسهم.

وعاد عيد النوروز إلى الظهور، إلى جانب اللغة الفارسية، للتأكيد على القومية الإيرانية. وما كتاب الشاهنامه للفردوسي، الذي كُتب في عهد السلطان محمود الغزنوي، إلا تتويج لهذه العودة إلى كل ما هو فارسي. نظم الفردوسي تاريخ الفرس، الذي حفظه الزرادشتيون باللغة البهلوية، في ستين ألف بيت شعر بالفارسية. اعتبرت هذه الأبيات الأفصح على الإطلاق، وأصبحت أساساً ومرجعاً للغة الفارسية الحديثة.

بسبب موقع يزد الصحراوي، نجت المدينة من الدمار الذي حل بإيران على أيدي جيوش جنكيز خان ولاحقاً حفيديه هولاكو وتيمور لنك. في العهد الأول للدولة المغولية الايلخانية، أصبحت يزد مقر القساوسة الزرادشتية في إيران لأن السلاطين الايلخانيين الأوائل لم يكونوا مسلمين ولم يفرقوا بين الرعايا الإيرانيين. ولابد أن التسامح الديني الذي عرفت به الدولة التيمورية التي تلت الدولة الايلخانية، قد ساعد لاحقاً على ظهور النار النقية في يزد، بعد سبعمائة عام على اختفائها، فتطور مجتمع زرادشتي قروي يتحلق حول هذه النار وبيوت الاجتماع الدينية، أو الانجمن، المنتشرة في يزد.

توحي تفاصيل تسلسل الأحداث المرتبطة بمدينة يزد أن النار النقية

أخفيت عن المسلمين سراً في الجبال القريبة من يزد لمئات السنين إلى أن خرجت من السر إلى العلن في عهد التسامح التيموري لتصبح يزد واحة الزرادشتيين ومركزهم في إيران.

لم تدم فرحة الزرادشتين كثيراً في واحتهم، لأن إيران تشيّعت في العهد الصفوي في القرن الخامس عشر. كان الصفويون يعانون من الحرب الدينية التي تقودها ضدهم الدولة العثمانية السنية، وأبدوا تسامحاً دينياً منقطع النظير وبالأخص للأقلية المسيحية التي بنت أجمل كنائسها في العهد الصفوي. إلا أنهم، مثل العباسيين، لم يرق لهم إلا أسلمة الزرادشتيين.

يصف الزرادشتيون محنتهم أيام الصفويين على أنها اسوأ ما عاصروه بعد نكبة الإسكندر الأكبر وحرقه لمكتبتهم، وهدمه لمعابدهم. وهذا قد يفسر، ربما، سبب بناء الصفويين في يزد لأكبر حسينية في إيران «حسينية أمير چخماق»، بالرغم من أنه لا توجد في يزد أهمية جغرافية دينية أو قدسية شيعية تبرر عظمة ذلك البناء، اللهم إلا منافسة الوجود الزرادشتي. وأمام محاصرة الصفويين لهم، هاجر الكثير من أهل يزد الزرادشتيين إلى خراسان وأفغانستان، وهناك بنوا مدينة سميت «يزدي» على اسم المدينة الأم. طغى المد الشيعي الصفوي بشكل خاص، فصارت يزد أول المدن الإيرانية من حيث عدد المساجد والحسينيات وتشكل مجتمعاً شيعياً منافساً للزرادشتية، ومحافظاً يكاد يفوق في تدينه تشدد الحاضرتين قم ومشهد.

في العهد البهلوي الأول وإبّان الحكم العلماني للشاه رضا، رُد الاعتبار للزرادشتين في إيران. لأول مرة بعد ثلاثة عشر قرناً من وصول الإسلام إلى إيران، بُني معبداً زرادشتياً وزُين مدخله بالشعار فراوهر وحفظت نار نقية، يعتقد الزرادشتيون أن عمرها أربعة آلاف سنة، في وعاء داخل الغرفة التي يسمونها الموبدي موبدان؛ أو القدس الأقدس، لا يدخلها إلا الموبذ؛ كبير القساوسة وسليل القسيس ماجي.

في يزد اليوم توجد جميع التفاصيل الزرادشتية. في جبل نائي من الجبال الكثيرة التي تحيط بالمدينة، تقع مغارة غائرة في الأساطير تسمى بير سبز، تحوي ناراً نقية ويحج إليها المؤمنون كل عام. وفي وسط المدينة يرتفع الشعار الزرادشتي على معبدهم الرئيسي، أو اتشكده، يمارس فيه القساوسة صلاواتهم واحتفالاتهم.

ويتحلق حول المعبد مجتمع قروي بسيط تتخلله العديد من المؤسسات الزرادشتية، أو الانجمن. وعلى أطراف المدينة، ترتفع أبراج الصمت، أو دخمه، كان الزرادشتيون يتركون موتاهم أعلاها بدون دفن لتتكفل الطيور الجارحة بالبقايا البشرية دون أن تتلوث البيئة. فالزرادشتيون يؤمنون أن جسد الإنسان موبؤ بالاهيما، الطاقة الشريرة، ولهذا فهو يمرض ويشيخ وبعد الموت يتعفن. لذلك لا يدفن الزرادشتيون الميت لأنه يلوث الأرض، ولا يحرقوا الجثة لأن ذلك يلوث الهواء، بل يتركوا موتاهم على جبل، خارج المدينة لتأكل لحمها الطيور الجارحة.

ولنفس السبب نحت الاخمينيون والساسانيون الجبال كقبور في شكل مغارات مفتوحة على ارتفاع لا تصل إليه الناس، وتركوا جثث ملوكهم الأوائل هناك بدون دفن أو حرق. بعد الثورة الإسلامية في إيران العام 1979م، مارس الزرادشتيون حياتهم الدينية بشكل عادي لكن طقوس الدخمه الزرادشتية مُنعت وأُقيمت لهم مقبرة بجانب أبراج الصمت في يزد. صار الزرادشتيون يدفنون موتاهم مجبرين، لكنهم يغطون جدران حفرة القبر بالطوب لمنع تلوث الأرض من الجثة المتحللة.

يوجد في إيران اليوم ما يقارب 100 ألف زرادشتي معظمهم يعيش في يزد. وبالرغم من العدد القليل للزرادشتيين، إلا أن جميع الإيرانيين (الفرس والآذريين والأكراد والأقليات الصغيرة مثل التركمان واللاريين والعرب والبلوش)، الذين يفوق عددهم السبعين مليون نسمة، يحتفلون في الواحد والعشرين من شهر مارس/ آذار بعيد النوروز، السنة الجديدة الإيرانية، وتحتفل معهم خمسة عشر دولة آسيوية أخرى. وبهذا يصبح مقنعاً أن يضاف عيد النوروز إلى قائمة التراث الإنساني غير الملموس للأمم المتحدة.

الخاتمة

لا يمكنني في هذه المقالة المختصرة، إلا أن أشير إلى ما لاحظه المؤرخون من أن العرب والمسلمين الأوائل لم يجهدوا أنفسهم في دراسة أو فهم الزرادشتية كما فعلوا مع اليهودية والمسيحية، ربما لأنها لم تكن تحدياً للدين الجديد. بل اكتفى الأوائل بترجمة الكتب الفارسية القديمة التي اختلط فيها الأسطوري بالتاريخي، والقومي بالديني.

استخدم المسلمون المصطلح الذي ورد في القرآن الكريم، مرة واحدة فقط، وهو «المجوس» والذي فسره الأوائل على أنهم عبدة النار. وبالرغم من التقارب الكبير بين الزرادشتية والإسلام، والسهولة النسبية التي تحولت فيها إيران إلى الإسلام، إلا أن الزرادشتيين قبلوا الإسلام ولكنهم لم يقبلوا العروبة. على العكس منهم، قبل مسيحيو الشرق العروبة ولم يقبلوا الإسلام. وعلى هذه الأزمة القومية بين الأمتين الإيرانية والعربية قامت معظم النزاعات، القديمة منها والحديثة.

عاش الزرادشتيون مع المسلمين لأكثر من أربعة عشر قرناً وهم في حماية السورة الوحيدة التي ذُكروا فيها. قال تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ» (الحج: 17).

العدد 4263 - الجمعة 09 مايو 2014م الموافق 10 رجب 1435هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 3 | 4:01 م

      مقال روعه

      نشكر الكاتب على معلومات الشيقه والمفيده

    • زائر 2 | 2:40 ص

      كنت اتمني

      كنت اتمني ان يكون المقال اكثر اتزانا و اقرب الي الواقع. هناك الكثير من الهفوات و الانحيازات ليس هذا التعليق مجال لمناقشة المقال.

    • زائر 1 | 10:30 م

      ممكن رقم العدد للجزء الاول من المقال

      جزاكم الله خير

اقرأ ايضاً