العدد 4263 - الجمعة 09 مايو 2014م الموافق 10 رجب 1435هـ

التجارة البحرية بالبحرين قديماً: الوحدة الجيوسياسية

إن المتتبع لتاريخ جزر البحرين في كتب المؤرخين والجغرافيين المتقدمين، يلاحظ أن جزر البحرين، أو تحديداً أوال، لم تذكر بصورة واضحة إلا في القرن العاشر الميلادي؛ أي مع بداية السيطرة القرمطية، ينظر في ذلك، على سبيل المثال، كتاب «البحرين في مؤلفات جغرافيي القرنيين الثالث والرابع الهجريين التاسع والعاشر الميلاديين» لمحمد الشمري (صدر العام 2012).

ففي هذا الكتاب لا نجد وصفاً لأوال إلا في القرن العاشر الميلادي، وكأن أوال لم يكن لها وجود قبل ذلك. حتى في الدراسات الآثارية، فهناك دراسات آثارية درست الآثار الإسلامية في البحرين بصورة غير متعمقة، وهذه الدراسات تعطي انطباعاً عن وجود حلقة مفقودة من تاريخ البحرين في الحقبتين الساسانية والإسلامية المبكرة. أما الدراسات الآثارية المتعمقة، كبعثة التنقيب البريطانية في البلاد القديم والمحرق، فتعطي صورة مختلفة عن البحرين قبل القرن العاشر الميلادي، ومع ذلك يبقى شيء من الغموض يحيط بتاريخ البحرين في هذه الحقبة. ومن أكثر الأمور غموضاً هي التجارة البحرية وخصوصاً في الحقبة الساسانية، وقد أدت قلة الآثار في هذه الحقبة إلى ترجيح أن أوال لم تكن جزءاً من شبكة التجارة البحرية التي أسسها الساسانيون (Larsen 1983, p. 111).

في المقابل هناك دلائل واضحة على عملية استيراد مواد مختلفة من مناطق مختلفة من العراق إلى الصين. المرجح أن جزر البحرين كانت منذ حقبة دلمون وحتى الحقب الإسلامية جزءاً من وحدة جيوسياسية تضم، إضافة إلى جزر البحرين، عدداً من المناطق التي تعمل كوحدة واحدة في مجال التجارة البحرية (Kosmin 2013).

شرق الجزيرة كوحدة جيوسياسية

يرى Potts أنه كان في الخليج العربي في الحقب القديمة نظامان يعمل بهما في التجارة البحرية، نظام المناطق المنعزلة التي تعمل منفردة ونظام الكيان الوحدوي. وكمثال على النوع الأخير، أعطى Potts المنطقة الممتدة من سواحل الكويت حتى شبه جزيرة عمان، بما في ذلك الجزر القريبة من هذا الامتداد، فهذه المنطقة كانت تشكل نظاماً جغرافيّاً مترابطاً ومتداخلاً؛ حيث تمثل التجارة البحرية فيه حرفةً أساسية من حرف السكان الذين يقطنون هذه المنطقة، سواء كانت هذه التجارة بين أقطار الخليج العربي نفسه أو بين هذه الأقطار والمناطق البعيدة. وعلى مدى الحقب التاريخية القديمة، مثَّل ساحل الجزيرة العربية في الخليج العربي (بخلاف ساحل فارس) خط التجارة الأساسي؛ وذلك لوجود الموانئ العميقة ومصادر المياه العذبة. ويرجح أن المحطات الأساسية في هذا الطريق التجاري هي: جزيرة فيلكا وجزر البحرين وجزيرة تاروت؛ وذلك بسبب عدم وجود محطات سكنية متفرقة على طول ساحل الجزيرة العربية وكذلك لوجود جماعات رعوية تسكن شرق الجزيرة العربية تسبب تهديداً للسفن التجارية (Potts 1978, in Kosmin 2013). ومن هنا جاءت أهمية تلك المناطق الثلاث التي كانت تمثل إقليم دلمون، وإن أي قوى سياسية تسيطر على دلمون فإنها، بالتالي، تسيطر على أهم طريق تجاري بحري. هذا يعني، أن هناك وحدة جيوسياسية كانت في الخليج العربي وأن دلمون كانت تمثل مركز هذه الوحدة الجيوسياسية. هذا الوضع لم يتغير عبر الحقب التاريخية التي كانت تمثل الحقب الدلمونية.

وقد ورثت تايلوس (البحرين في الحقبة الهلنستية) إرث دلمون. وفي العهد السلوقي (نهاية القرن الثالث قبل الميلاد) تحول إقليم دلمون بجميع مكوناته إلى إقليم آخر عرف باسم إقليم «تايلوس والجزر»، وقد كانت تايلوس تمثل مركز هذا الإقليم الذي استمر يمثل وحدة جيوسياسية (Kosmin 2013).

إقليم تايلوس والجزر

سبق لنا الحديث عن العثور على نقش يوثق بناء معبد يوناني في البحرين في القرن الثالث قبل الميلاد. ويذكر فيه اسم المرزبان كيفيسيدوروس مرزبان تايلوس والجزر المحيطة (Gatier et al 2002). وبحسب دراسة حديثة نشرها Kosmin في العام 2013، فإن المقصود باسم تايلوس والجزر هو إقليم دلمون السابق، أي أنه يضم، بالإضافة إلى جزر البحرين، جزيرة فيلكا وجزيرة تاروت؛ حيث إن لقب مرزبان (strategos) يعطى لقائد إقليم وليس لقائد منطقة صغيرة (Kosmin 2013).

يذكر، أنه قبل اكتشاف هذا النقش في البحرين، كانت هناك رسالة تذكر اسم سلوقي، من دون أي لقب، وهو أناكسارخوس (Anaxarchos)، وهذا الشخص كان مسئولاً عن جزيرة فيلكا، ويرجح Kosmin أن هذا الشخص، في ظل المعلومات التي وفرها نقش البحرين، هو أول مرزبان تولى حكم إقليم تايلوس والجزر وأن مقره كان في تايلوس، حيث إن سياق الرسالة، التي يذكر فيها هذا الاسم، لا يوحي أن هذا الشخص كان يسكن في جزيرة فيلكا، بل يوحي أنه كان يسكن في تايلوس (Kosmin 2013). والمرجح أن هذا المرزبان يسكن في المدينة التي تعود إلى حقبة تايلوس والتي توجد في قلعة البحرين.

التجارة في الحقبة البارثية الساسانية

تعتبر هذة الحقبة التي تمثل حقبة ما قبل الإسلام في البحرين من الحقب الغامضة، وقد رجح البعض أن جزر البحرين لم تكن جزءاً من شبكة التجارة البحرية، إلا أن نتائج التنقيب الآثارية الحديثة تشير إلى غير ذلك، فهي تشير إلى وجود معبد بارثي ساساني مع مدينة ساسانية في قرية باربار، وإلى وجود معبد ساساني ومدينة ساسانية في سار، وكذلك منطقة سكنى ساسانية في المحرق، وقد تطرقنا إلى ذلك في الفصل السابق. للأسف لا نمتلك تفاصيل عن هذه المواقع الأثرية الساسانية، ولا نعلم إذا كانت هناك آثار ساسانية، تشير إلى وجود تجارة بحرية رائجة، لكنها طمست.

بالطبع هذه المدن الساسانية استمرت في التجارة حتى ظهور الإسلام، ومن ثم توسعت؛ فمنذ القرن الثامن الميلادي أنشئت مدن إسلامية في باربار وسار وعالي والبلاد القديم. وقد تميزت المدينة التي أنشئت في البلاد القديم بوجود سوق مركزية. ويبدو أن جزر البحرين حتى هذه الحقبة لم تفقد أهميتها كجزء من كيان جيوسياسي في الخليج العربي؛ حيث حاولت كل من الدولة الأموية والدولة العباسية إخضاع هذه المنطقة بالقوة، وعندما عجزت لجأت للحلول السياسية. حيث حدث نوع من التفاهم السياسي الضمني بين البحرين والدولة العباسية، ودخلت البحرين في حالة من الاستقلال السياسي، وظلت السلطة العباسية، في الفترات اللاحقة، اسمية فقط، ولم يكن للعباسيين هدف سوى تأمين الملاحة البحرية عبر الخليج العربي (حياوي والخزرجي 2011).

البحرين بعد القرن العاشر الميلادي

في الحلقات السابقة تناولنا تاريخ البحرين في القرنين الثامن والتاسع الميلاديين، وقد أثبتنا من خلال ما عثر عليه من آثار هوية البحرين الإسلامية التي اعتنقت المذهب الشيعي. وهذه الآثار تتفق مع الروايات التاريخية عند المتقدمين حول مذهب سكان إقليم البحرين بصورة عامة. هذه النتائج المستوحاة من الآثار كافية لترد على مزاعم كتاب تاريخ البحرين. ففي ظل غياب ذكر جزيرة أوال عند كتاب القرنين الثامن والتاسع الميلاديين، وظهور ذكر أوال في القرن العاشر الميلادي مرتبطاً بالسيطرة القرمطية عليها، جعل العديد من الكتاب يتجهون لبناء نموذج معين للتطور السياسي المذهبي في البحرين. وفي سبيل بناء ذلك، تم وضع فرضيات تؤطر لتبعية التغير المذهبي للتغير السياسي؛ بمعنى، بما أن البحرين لم تذكر إلا خلال السيطرة السياسية القرمطية، فإن شعبها تابع لهذه السيطرة السياسية أي أنهم قرامطة، على المذهب الإسماعيلي، وبقوا كذلك، وعندما زالت الدولة القرمطية تغير مذهب سكان البحرين بحسب التغير السياسي؛ فمنهم من بقي على مذهبه ومنهم من اعتنق مذاهب أخرى، وعندما سيطرت الدولة الصفوية الشيعية على البحرين تحول العديد إلى المذهب الشيعي. يتبع.

العدد 4263 - الجمعة 09 مايو 2014م الموافق 10 رجب 1435هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً