العدد 4262 - الخميس 08 مايو 2014م الموافق 09 رجب 1435هـ

الدولة الأمنية العربية... تساؤلات للنقاش

شفيق الغبرا comments [at] alwasatnews.com

هناك حادثة لصديق لبناني وقعت معه عندما كان في الرابعة عشرة في العام 1969: فقد شارك في تظاهرة احتجاج سلمية في مدينته بيروت، وما كان من رجل الأمن إلا أن صوّب بندقيته على الطفل المتظاهر عن بعد لا يتجاوز أمتاراً قليلة، فانتهى الأمر بإصابته في رأسه وكتفه بطلقات عدة. هذه الحادثة، التي لم تقتل صديقي، تحكمت بمسيرة حياته وحوّلته إلى فكرة الثورة وأفكار الحرب التي ستندلع في لبنان لست عشرة سنة متتالية.

كل عنفٍ نراه في مشهدنا العربي له مسببات، وكل عنف يبدأ بحادثةٍ قامت بها جهات تمتعت بالسيطرة وضخمت من خطر التجمع والتظاهر السلمي وبرّرت لنفسها أسوأ التجاوزات من دون دراية منها بأنها تقود الوضع إلى أسوأ ردود الفعل.

في عالمنا العربي يكفي لحادثة تعذيب أو ظلم وانتهاك تقوم بها أجهزة رسمية يفترض فيها أن تكون المدافع عن الناس، لخلق شخصية تقدّس العنف وربما الثورة، في الحالتين المجتمع والدولة هما الخاسر الأول. إن الأجهزة عندما تفتح الباب للانتهاكات وتهمل الإجراءات الإنسانية في استخدام قوتها، تغامر وتقامر بمصيرها، هكذا تخلق إرهابيي الغد وثوار ما بعد الغد.

وتعاني الدولة العربية وبدرجات مختلفة من سوء تقدير كبير، فهي تضخّم ما يقع على أراضيها بصفته خطراً على أمنها القومي والوطني: فالتظاهرة خطرٌ عليها، والإضراب خطرٌ آخر، والنقد خطرٌ ثالث، والحريات فوضى لا حدود لها. لهذا تقمع متظاهرين سلميين وحركات شابة لأنها تثير الأسئلة وتخلق حالة رأي عام.

إن الدول التي تميل إلى الممارسة الأمنية (عكس المدنية) لا تمتلك المرونة في التعامل مع مطالب الشارع، فالدول العاجزة ترى في حركة المجتمع تحدياً لها، وذلك لأنها لا تمتلك أدوات الإصلاح والتداول على السلطة والعدالة.

إن ما يقع للشاب أو الشابة في البلدان العربية منذ لحظة الاعتقال حتى لحظة الحكم والسجن، هو الذي يصنع الفارق بين دولة استبدادية وأخرى نقيض لها. ففي الدولة الاستبدادية السجّان كتلة من العقد النفسية، وقد اختار هذه المهنة لعدم توافر فرص أخرى في الحياة، وفي معظم ما نقرأ عن السجون العربية: السجان حاقدٌ على المجتمع وعلى نفسه وعلى السجين وعلى دولته التي وضعته في مهنة شاقة ومتعبة كهذه. لهذا يعبّر السجان عن كبته من خلال إذلال المساجين وانتهاكهم، وهذا بدوره يحولهم أما لثوريين محترفين أو لأعداء دائمين لأنفسهم وللمجتمع. وتعتبر الدولة بأن كسر روح مقاومة الناس للسلطة مدخل للاستقرار، لكنها حتماً تغذّي عدم الاستقرار وتدفع بالمواطن للثورة. أنصح بقراءة بعض مما كتب عن أدب السجون في المغرب ومصر وسورية ودول عربية أخرى على مدى السنوات العشر الماضية.

إن تناقضات الكثير من الدول العربية لا تعبّر عن نفسها فقط في شكل الطرق أو في صورة المباني المتهالكة أو في فساد المشاريع، بقدر ما تعبّر عن نفسها في ثقافة الأجهزة الأمنية والبوليس والمحاكم بل وفي ثقافة الكثير من أصحاب السلطة والقوة. فالدولة العربية تقدّس العقاب وكثيراً ما تتعسف. ولهذا بالتحديد تصبح المعارضة التي ترفض هذا التعسف معرّضةً لحمل ذات الأمراض التي ورثتها إياها سلوكات الأنظمة العربية، وهذا يخلق لنا دائرةً مغلقةً لابد من كسرها بروح جديدة.

في بداية تعرفي على السياسة وتناقضاتها، كنت معجباً للغاية بشخص الزعيم جمال عبد الناصر، ومازلت ليومنا هذا أقدّر تلك الشخصية التاريخية لمصر وللعرب، لكني لم أفهم قراراته في إعدام عددٍ من قادة الإخوان المسلمين وبينهم مفكرون وكتاب. لم أفهم كيف اعتقد النظام حينها في ذلك الزمن من ستينات القرن العشرين أن إعدام سيد قطب سيؤدي إلى نهاية فكر الإخوان المسلمين. ومع الزمن تبين أن السجن والإعدام كانا مسئولين عن نشر فكر الإخوان المسلمين وتعميق المظلومية في أطروحاتهم.

الشيء الأكيد أنه لن تتغيّر فكرة أكانت في الإسلام أو في نقيضه بلا حوار، في ظل دور واضح لحرية الثقافة والفكر والتعبير ولحرية الإعلام ولحرية العمل السياسي لكل الفرقاء والأطراف في المجتمع. وعندما ندقق في المشهد المصري بصفته يعكس تطورات تقع في أهم وأكبر دولة عربية: نتساءل كم من بين الأكثر من ثلاثة آلاف مصري ممن قتلوا بعد يوليو/ تموز 2013 كان بالإمكان أن لا يُقتلوا لو اتبعت ضمانات مختلفة في التعامل؟ كم من الذين وُضعوا في السجون كان بالإمكان عدم سجنهم لو كانت ثقافة الدولة والأجهزة مختلفة؟ وكم من الذين تم سجنهم واشتبكوا مع أجهزة الدولة هم ضحايا غياب الوفاق السياسي والأجواء التي جاءت بعد انقلاب 3 يوليو 2013؟

ونتساءل: أليست المعارضة والغضب الراهن في مصر من نتائج لمشكلة أعمق؟ ألم يجرّب العراق طريق الاجتثاث (رغم اختلافي التام مع حزب البعث العراقي)، فماذا كانت النتيجة على العراق؟ لايزال العراق ليومنا هذا يعيش في خضم صراع كبير يؤكّد أن سلوك الاجتثاث أنتج مقاومةً وعنفاً وقتالاً. الأمن بلا عدالة لن ينتج إلا الغضب والثورة، والسلطات التي يتشكّك الناس بشرعيتها لا يمكن أن تبقى مهما امتلكت من أدوات النار والقوة.

ولو تعمقنا أكثر سنجد أن الإخوان المسلمين والذين يجري الهجوم الشامل عليهم في العالم العربي، تغيّروا كثيراً في السنوات التي أعقبت الستينات، فهذا التيار قابل لمزيد من التغير لمصلحة الديمقراطية والتنوع كما تؤكد تجربة تركيا وتجارب أخرى، بشرط توفير مساحات من الحرية للجدل والتجربة والحوار والمشاركة الحقيقية. ففي المغرب دور رئيسي للتيار في قيادة الحكومة برمتها؛ وفي تونس الإخوان جزء من تركيبة الوفاق والتحول الديمقراطي؛ وفي الكويت الإخوان جزء من الشارع السياسي والحراك السلمي الإصلاحي؛ وفي مصر شارك الإخوان في تجربة انتخابية ديمقراطية واصطدموا مع الدولة العميقة وقطاعات واسعة من المجتمع بعد انتخابهم ديمقراطياً، لكن الحل للمشكلة ليس في الاجتثاث والتصفية والسجن والانقلاب والدفع بالأوضاع نحو التطرف من قبل الدولة ثم من قبل معارضيها، بل في قبول انتخابات ديمقراطية جديدة لا تشبه ما يقع الآن من انتخابات رئاسية في ظل سجن قادة وأنصار التيارات المعارضة.

إن وضع الإخوان ومعهم حركة «6 إبريل» وحركات شبيهة في مصاف العنف والإرهاب يعني عملياً الابتعاد عن التحول الديمقراطي لمصلحة التحوّل السلطوي، وهذا سيعني أن الدولة ستزداد عنفاً، في هذه المعركة الخاسر الأول والأخير هو المجتمع والمستقبل.

المشهد العربي، وكذلك المصري، سيبقى يتراوح بين المأزق والأزمة، وبين الهدنة والتساؤل، إلى أن يكتشف حلولاً وسطاً تسمح بالعودة ثانيةً إلى التحوّل الديمقراطي. ومن الآن وحتى تكتشف مصر ويكتشف العرب الحلول المطلوبة، لابد من إصلاحات جادة في الواقع القضائي والأمني بهدف حماية ما تبقى من سمعة وبنية الدولة العربية.

الدولة العربية لازالت، بسبب غياب مشروع التنمية الجادة، وبسبب غياب مشروع الإنسان والحريات، تواجه موجات صغرى من الاحتجاج، هذه الموجات قابلة للتحوّل إلى موجةٍ عاتيةٍ عند وقوع حادث صغير في يوم عادي.

إقرأ أيضا لـ "شفيق الغبرا"

العدد 4262 - الخميس 08 مايو 2014م الموافق 09 رجب 1435هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 4 | 3:45 ص

      تحياتي للكاتب الكبير

      يجب اعادة المقال مرات و مرات للقراءة وعل المسئولين قراءته مرات .

    • زائر 3 | 2:49 ص

      ليس هناك أعز من الوطن

      في عهد جمال عبد الناصر، أعدم المكفرون وليس المفكرين من الإخوان إذ كان الصدام بينهما على الشراكة في السلطة مما حدا بسيد قطب الى تكفير المجتمع واعتباره مجتمعا جاهليا. لقد تمدد فكر الاخوان بسبب غياب العدالة الاجتماعية وانتشار الفساد وغياب دور الدولة فامتطوا صهوة الدين ودغدغوا مشاعر الناس " بالمظلومية " وبالسلع التموينية أيضا !أردوغان نجح لأنه سياسي وليس مرشدا عاما.ينبغي الكف عن توظيف المظلومية و"السلمية" لتبرير حرق الأوطان .

    • زائر 2 | 1:00 ص

      خطورة لا يدركها البعض: هناك أجيال تتعدّى على هذا العنف فماذا ستصبح

      من يظن انه بهذا العنف الموجود وأخص بالذكر البحرين. من يظن انه بهذا العنف وبهذه الطريقة العنصرية في التعاطي سوف يقضي على مطالب الشعب فإنه واهم.
      هناك جيل اصبح يرتضع الحقد والكراهية بسبب هذا العنف والنتيجة معروفة ولن يقتصر الضرر على اشخاص بعينهم بل سيطال الضرر كل الامّة وعندها لن ينفع وصف الناس بالإرهاب ونحن من تسبب فيه . الحكومات العربية مسؤولة عن تفريخ الارهاب

    • زائر 1 | 12:04 ص

      مقال رائع

      لكني اعتقد السبب ثقافي. نحن لم نربي لكي نعيش و نعمل كفريق بل كأنانيين قصيري النظر نسير خلف فكرة او قائد دون وعي. لم يصل قائد واعي الي سدة الحكم ليؤسس امة تجمعها الوطن و المصالح العليا. هكذا نري تشتت البلدان التي قامت فيها الربيع العربي و هي تنزل لقمة سهلة في أحشاء القوي الاستعمارية.

اقرأ ايضاً