إثر وضع اتفاقية سايكس بيكو، ووعد بلفور موضع التنفيذ، تكشفت حقائق موضوعية جديدة، فالعرب الذين واجهوا الاحتلال العثماني بأرضية واحدة، اكتشفوا أن المحتلين الجدد، قسموا غنائم الحرب فيما بينهم، رسموا حدوداً غيبت حقائق الجغرافيا والتاريخ.
الانهيارات التي تشهدها البلدان العربية، ليست قدراً مقدراً، فالعرب ليسوا أمة خارج التاريخ، وكانت لهم إسهاماتهم الحضارية. وقد امتدت إمبراطوريتهم، في فترة قياسية قصيرة لم يشهدها التاريخ قبلهم ولا بعدهم، فوصلت إلى السند شرقاً، وإسبانيا غرباً. ولم يبتعد الخليفة العباسي هارون الرشيد عن الحقيقة، حين خاطب غيمة: أمطري حيث شئت، فسيكون لنا فيك نصيب حيثما أمطرت.
سقطت دولة الخلافة، وكان حالنا في ذلك حال معظم الإمبراطوريات التي قامت على وجه هذه البسيطة. نحن أيضاً خاضعون لقوانين الدورة التاريخية، حيث النشوء والعمران والشيخوخة، وحيث ليس بعد الاكتمال سوى النقصان. سقطت الحضارة العربية، وتفككت دولة الخلافة إلى إمارات وممالك صغيرة، بعد هجوم التتار، وهيمنة الاستبداد العثماني. لكن أمور الناس المعتادة، ظلت على ما هي عليه، الناس يأكلون مما ينتجون، يكدون ويتعبون، ويحافظون على شيء من الاستقلال الذاتي، حيث ظل العرب في غنى عن الخارج... يزرعون ويتاجرون وينتجون بحرف بدائية متواضعة، لكنها كافية لسد حاجاتهم.
وكانت بداية الوعي الجديد، الذي بلغ حد تشكيل حركة سياسية مناهضة للعثمانيين قد تشكل في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. وكان للتشكل ظروفه المحلية والإقليمية والدولية. ذلك لا يعني أن مقاومة العرب للعثمانيين لم تبدأ إلا في ذلك الوقت، فقد قادت الدولة السعودية الثانية، محاولات الانفصال عن السلطنة، وفي فلسطين قاد الأمير ظاهر العمر محاولة مماثلة، وفي بلاد الشام، قادت الإمارة المعينية أيضاً محاولة للاستقلال عن العثمانيين، وكذلك الحال مع مصر محمد علي باشا، وعراق مدحت باشا. لكن كل تلك المحاولات باءت بالفشل، بسبب التضامن الدولي مع السلطة، ورفض قوى الهيمنة عودة الحضارة العربية، حتى ولو كانت بشكل مختلف عن السابق.
تزامنت حركة اليقظة العربية الجديدة، بحقائق موضوعية، أعاقت تحقيقها لأهدافها، وكانت لهذه الحقائق انعكاساتها النفسية والسياسية والاقتصادية. فاكتشاف طريق رأس الرجاء الصالح، الذي كان كشفاً جغرافياً عظيماً، تسبّب في انهيار الموانئ العربية، القائمة على الجزء العربي من حوض البحر الأبيض المتوسط.
وهذا هو الإخفاق الأول للنهضة، حيث تسبب ذلك في انهيار اقتصادي لعموم البلدان الواقعة على حوض البحر الأبيض. والمحزن في الأمر، أن مشروع اليقظة انطلق من هذه البلدان، من مصر والعراق وبلاد الشام، قبل تقسيمه.
وضاعف من المعضلة تزامن ذلك، بصعود كاسح للتصنيع الغربي، ما أدى إلى انهيار الصناعات المحلية، التي لم يعد بمقدورها التنافس مع المنتجات الصناعية الغربية، لا من حيث الكم أو النوع. انهارت الصناعات الحرفية، في البلدان العربية، التي انطلق منها مشروع اليقظة، كما انهارت من قبل موانئها البحرية. وهنا تأتي المحطة الثانية في الساعة.
فنتائج الانهيار الاقتصادي، بشقيه، الخدمي والصناعي، أدت لتغيير في الهياكل السياسية والاجتماعية، وفي البنية النفسية لطبقة كبار الملاك. فقد تحوّلوا من منتجين إلى وسطاء في الاقتصاد العالمي: وسطاء بين المنتج والمستهلك. وأول الإسقاطات النفسية لهذا التحوّل، هو انعدام الإبداع والمبادرة، والبعد عن المخاطرة، ومحاولة كسب المنتج والمستهلك معاً. وأصبحوا خاضعين لمقولة «جبن رأسمال».
والأنكى من كل ذلك، أن هذه الطبقة هي التي قادت مشروع النهضة في طوره الأول، وأنيط لها دور التصدي للسلطنة العثمانية. لقد وضعتها الأحداث في حالة لا تحسد عليها، فقد كانت الوريث للثقافة التقليدية، ومن جهة أخرى، هي القائدة لعملية التنوير. حالة «الشوزفرينيا» هذه، خلقت شكلاً مشوّهاً لمرحلة التنوير، عكست نفسها في التحالفات التي أجرتها هذه القوى من بريطانيا وفرنسا، للتخلص من السلطان العثماني، فيما عُرف بالثورة العربية التي قادها شريف مكة، بتشجيع من زعماء حركة النهضة في الشام.
كان الخلاص، كما تصوره هؤلاء يكمن في الاتصال بالمندوب السامي البريطاني، اللورد مكماهون في مصر، والاعتماد على شريف مكة لقيادة مشروع التحرير والتنوير. هذا السلوك هو ما يعكس حقيقة الانفصام، بين هدف الاستقلال وأدواته. فكانت النتيجة هي معاهدة سايكس- بيكو ووعد بلفور. الأول حال دون قيام امبراطورية عربية بالمشرق العربي؛ والآخر أوجد إسفيناً مسموماً يحول دون وحدة مشرق الوطن العربي مع مغربه.
والنتيجة أننا تحولنا إلى مجتمع غير منتج، وتحولنا إلى مستهلكين، وما دام الاستهلاك هو القدر المقدر في تلك اللحظة من التاريخ، صرنا نستهلك كل شيء، بما في ذلك الأفكار. أصبحنا نستورد مع ما نستورده من البضائع، قيم المجتمع ونتأثر بالليبرالية واليسارية، وكان استقبال هذه الأفكار بالطريقة التي جرت، هو الصدى الواهن للعجز عن إنتاج أفكار تليق بماضينا الحضاري، وهو تعبير عن ضعف مقاومتنا وعدم قدرتنا على التفاعل الخلاق مع ما يجري من حولنا، وعجزنا عن توطين ما هو إنساني، ووضع بصمتنا عليه. وتلك محطةٌ أخرى في إخفاق مشروع النهضة.
إثر وضع اتفاقية سايكس بيكو، ووعد بلفور موضع التنفيذ، تكشفت حقائق موضوعية جديدة، فالعرب الذين واجهوا الاحتلال العثماني بأرضيةٍ واحدة، وسقف مشترك، اكتشفوا أن المحتلين الجدد، قسموا غنائم الحرب فيما بينهم، رسموا حدوداً غيّبت حقائق الجغرافيا والتاريخ. وكانت نتيجة ذلك أن غدا التشكيل الجديد لخريطتهم السياسية والاقتصادية، مختلاً ومشوّهاً وزائفاً، لكنه في الوقت ذاته أصبح أمراً واقعاً، ترك بصماته واضحةً على محاولات العرب لنيل استقلالهم الوطني، حين امتشق كل بلد على حدة، سلاحه للتخلص من الاحتلال، وبناء دولته المستقلة، وتأمين مستقبل أجياله. وعندما تمكنت البلدان العربية من انتزاع الاعتراف باستقلالها، تأكّد أن الطموحات في التنمية والبناء، وصلت إلى طريق مسدود، بسبب حالة الاحتقان التي نتجت عن القسمة، وغياب التكامل الاقتصادي بين البلدان العربية، حديثة الاستقلال. وتلك هي محطة أخرى في إخفاقات النهضة، لتتبعها أسباب أخرى لإخفاقات المشروع النهضوي.
إقرأ أيضا لـ "يوسف مكي "العدد 4260 - الثلثاء 06 مايو 2014م الموافق 07 رجب 1435هـ
التقسيم ..
هدفهم التقسيم .. لتعم الخلافات الدول العربية .. و يتسنى للغرب سرقة خيراتنا و تسليح الأطراف المتنازعة للإستفادة و جعل الأمة العربية منهكة من الخلافات و الحروب و الأزمات السياسية و الإقتصادية .. و كل هذا يفشل مشروع النهضة المتعثر بأدوات الإستعمار .. الإستعمار بكافة أشكاله و ألوانه ..