قال أمين عام لجنة الحوار الإسلامي المسيحي محمد السماك إن التفكير العام يتركز في عصرنا الرهن على فكرة الاتصال كوسيلة لفك حالة العزلة والانغلاق على الذات خوفًا من ذلك الآخر، لهذا كانت العولمة سببًا من أسباب تحقق هذا الاتصال، فقد «أقامت العولمة جسورًا من التواصل والاتصال بين الأمم والشعوب المختلفة لم تكن موجودة من قبل، ساعد ذلك على فتح آفاق للتعارف وللمعرفة لم يكن الوصول إليها بمثل السهولة التي هي عليها الآن، ومن خلال ذلك تولّد شعور عام بأن الشعوب والأمم تعرف الآن عن ثقافات وأدبيات بعضها كما لم تكن تعرف من قبل».
جاء ذلك خلال ورقته التي قدمها اليوم الثلثاء (6 مايو/ أيار 2014)، معنونًا ورقته بــ «أثر المحاصصة السياسية على أتباع الحضارات المتنوعة»، قدم خلالها ما يمكن وصفه بالمقدمات التي يمكن اعتمادها كقواعد عامة لأي عملية اتصال لسانية بين الناس، لهذا تحدث عن مفهوم «التعارف» كقاعدة عامة مفادها «أن المعرفة الصحيحة تؤدي إلى التعارف الصحيح»، مضيفًا في هذا السياق أن التعارف - أي تبادل المعرفة بين الناس- ينطلق أساسًا من الاعتراف بالاختلاف والتباين بين الناس، كما ينطلق من التعامل مع هذه الحقائق التكوينية في الذات الإنسانية على أنها ظاهرة طبيعية وعلى أنها تعبير عن إرادة إلهية في أن يكون الناس مختلفين. فاختلاف الألسن والألوان - أي الاختلاف في اللغات والأجناس- آية من آيات الله البينات. ثم أن التعارف الذي يؤسس للاحترام المتبادل على قاعدة هذه الاختلافات والتباينات، وليس على قاعدة إلغائها أو حتى تجاوزها وتجاهلها، هو أيضًا استجابة للدعوة الإلهية.
من جهة أخرى أوضح السماك بأن «الجهل بالآخر يزرع الشك وعدم الثقة ويؤسس بالتالي للبغضاء والكراهية» وعلاج كل تلك المفردات هي لغة الاحترام، فالتنوع الحضاري – من وجهة نظره - على مستوى الإنسانية، والتعدد الثقافي على مستوى المجتمعات الوطنية، يحتمان تبادل الاحترام، وهذا لا يكون الا بتبادل المعرفة.
مستكملًا أطروحته في هذا المفصل بالإشارة إلى «أن الوحدة في أساس الأمر لا تكون إلا مع الآخر، والآخر لا يكون إلا مختلفًا، وإلا فإنه لا يكون آخر» والحفاظ على هذه الوحدة يتطلب الحفاظ على الآخر، واستمرارها استمرار له.
واستشهد بثلاث قواعد أساسية تقوم عليها فكرة «الوحدة» في التنوع، كانت القاعدة الأولى قد تمثلت في «الوحدة الإنسانية» بمعنى أن الناس جميعًا يشكلون أمة واحدة خلقها الله من نفس واحدة. أما القاعدة الثانية هي «التنوع الانساني» استنادًا للآية الكريمة "وجعلناكم شعوبًا وقبائل". أي أن هذا التنوع جُعل بإرادة إلهية، وأن وجوده هو تجسيد لهذه الإرادة الإلهية وتعبير عنها.
لتختزل القاعدة الثالثة دائرة الفكرة فيها، أن الهدف من هذا التنوع هو التعارف بين الناس تحقيقًا لوحدة تحفظ التنوع وتحترمه وتصونه. حيث تكتمل الآية القرآنية بتحديد الحكمة من التنوع بقولها "لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم".
فالتعارف هو الجسر الذي يربط بين الجماعات المتنوعة والمختلفة. ولكن لا تعارف من دون معرفة، ذلك ان التعارف يقوم اساسًا على المعرفة. ويفترض بالآخر ان يكون مختلفًا حتى نتعرف اليه. ويفترض أن نكون نحن مختلفين عنه حتى يتعرف الينا. ومن دون هذا الاختلاف ما كانت هناك حاجة للمعرفة، وما كان للتعارف اساسًا أن يكون.
كان نيتشه على حق عندما اعتبر "التسامح اهانة للآخر" ليكون المفصل الآخر الذي أشبعه السماك بحثا هو «الاختلاف» كمفهوم يرى بأنه لا يتناقض مع الوحدة الإنسانية، إذ يرى فيها علاقة تكاملية يمكن أن تحقق من خلال المبادئ الثلاثة التي قال بها القرآن الكريم: المبدأ الأول هو «التداول» "وتلك الأيام نداولها بين الناس" إذ لو كان الناس كلهم شعبًا واحدًا أو اثنية واحدة او على عقيدة واحدة وفكر واحد، لما كانت هناك حاجة للتداول، ولأنهم مختلفون، ولأن الارادة الإلهية شاءت أن يكونوا مختلفين، كان لا بد من التداول، والتداول يعني تواصل الانسانية واستمرارها بما هو مناقض لمقولة نهاية التاريخ. فالتداول حياة، والنهاية موات.
المبدأ الثاني هو «التدافع» "ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض"، فالتدافع – وليس التحارب ولا التصادم- هو تنافس ارتقائي وتطويري للمجتمعات الانسانية المختلفة. ذلك ان المجتمعات هي كالمياه، اذا ركدت اسنت، واذا تحركت وتدافعت امواجها، تعانقت مع حركة الضوء والريح مما يوفر لها عناصر الحياة والانتعاش والنمو والتقدم. فمن دون الاحتكاك الفكري والتلاقح الثقافي والتدافع الحضاري بين الناس المختلفين والمتنوعي الثقافات، يفقد الذهن عطشه الى المعرفة التي هو عود الثقاب الذي يلهبه. ان الاختلاف بين الناس وما يشكل الاختلاف من تدافع هو احد أهم مستلزمات عدم فساد الأرض.
المبدأ الثالث هو التغاير "وما من دابة في الأرض ولا طائر بجناحيه الا أمم"، "ولكل أمة رسول"، "كذلك أرسلناك في أمة قد خلت من قبلها أمم".
فالتغاير والاختلاف هو القاعدة، وهي قاعدة عصية على التجاوز، تشكل الثابت الدائم في المجتمعات الانسانية منذ بدء الخلق وحتى نهاية الزمن.
ولذلك ارسى الله قاعدة التعارف المكملة لقاعدة الاختلاف والتغاير . والقاعدتان معًا، تشكلان الاساس الذي تقوم عليه الأخوّة الانسانية التي لا سلام ولا استقرار من دونها.
لقد قال الاسلام بالتعارف بين الجماعات البشرية ولم يقل بالتسامح، كان نيتشه على حق عندما اعتبر "التسامح اهانة للآخر" لما يتضمنه من فوقية المتسامِح تجاه المتسامَح معه.