دشّن مؤتمر حوار الحضارات والثقافات أعماله يوم أمس الاثنين 5 مايو/ ايار 2014 بالعاصمة المنامة، وذلك بمشاركة نخبة من المؤسسات الدينية والمنظمات الدولية والكثير من المؤسسات الثقافية وزهاء 500 شخصية من مفكرين وباحثين ورجال دين وعلماء، من خارج مملكة البحرين كما من داخلها، وذلك تحت رعاية عاهل البلاد حضرة صاحب الجلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة، تحت عنوان: (الحضارات في خدمة الإنسانية)، لتكون مملكة البحرين مرة أخرى محطة من محطات حوار الحضارات وطنيا وإقليميا وعالميا.
ويأتي هذا المؤتمر تتوجا لجهود غير قليلة بذلت في الآونة الأخيرة من خلال سعي دؤوب لمؤسسات المجتمع المدني والجمعيات الثقافية والدينية المتنوعة في البحرين إلى إطلاق وثيقة مؤسسات المجتمع المدني للتسامح والتعايش الديني والمذهبي في مملكة البحرين وذلك في 14 فبراير/ شباط المنقضي. كما أن جهود البحرين في دعم الحوار بين الثقافات والحضارات إقليميا وعالميا لم تتوقف وذلك بمبادرات عديدة من عاهلها، حيث استضافت المملكة أول مؤتمر في المنطقة للحوار الإسلامي المسيحي سنة 2002، وأول مؤتمر للتقريب بين المذاهب سنة 2003، ومنتدى الحوار بين الحضارات عام 2005. لكن ما قصة حوار الحضارات أو ما الوجه الآخر لها؟
لئن كان حوار الأديان قديما نوعا ما، فإنّ حوار الحضارات لم يكتسب زخما إلاّ في تسعينيات القرن الماضي وذلك ردا على أطروحة صدام الحضارات وما أثارته من جدل؛ إذْ لا شكّ أنّ الصراع الإنساني قديم، غير أن الحديث عن صراع الحضارات أو صدام الحضارات يعتبر ناشئا في أواخر القرن العشرين فلقد دشّنه عالم المستقبليات المغربي المهدي المنجرة في مطلع التسعينيات، ثم جاء كتاب الباحث الأميركي وأستاذ العلوم السياسية صامويل هنتنجتون والذي يحمل عنوان «صراع الحضارات وإعادة تشكيل النظام العالمي» والصادر سنة 1996 وقد اعتبر فيه أنّ الهويات الثقافية والدينية ستمثل العامل الرئيسي للصراع في مرحلة ما بعد الحرب الباردة في العالم الذي أصبح في نظره متعدد الأقطاب ويقصد بالأقطاب الحضارات التي يتكون منها العالم، وأنّ ما يحكم العلاقة بين تلك الحضارات هو «الصدام»، هذا الصدام أساسه الثقافة أو الهوية التي تحكم كل حضارة، وذلك كما قال هنتنجتون: «إن الثقافة أو الهويات الثقافية، والتي هي على المستوى العام، هويات حضارية، هي التي تشكل أنماط التماسك والتفسخ والصراع في عالم ما بعد الحرب الباردة».
ورغم النقد الصريح الذي وجهه محمد عابد الجابري لمقولة (صدام الحضارات) من حيث مستواها الفكري والمعرفي، إذ اعتبرها لا تتناسب ومكانة هنتنجتون العلمية ومنهجيته العالية ما يشي بأنها قد كتبت باستعجال كبير ما جعل أفكارها تتكرر وتتدافع والشواهد فيها تتداخل في غير نظام والتحليل مضطرب والاستدلال متهافت والأمثلة تعّج بالمغالطات، رغم كل ذلك لقيت النظرية من الصدى والإشعاع ما جعل المنظمات العالمية والعديد من الشخصيات الفكرية والعلمية والدينية تنادي إلى حوار الحضارات تفاديا لصدام الحضارات.
ومن أجل إنجاح هكذا مشروع وطنيا أو إقليميا أو عالميا، لابد من الاستفادة من نتائج تجارب مشاريع عالمية كبيرة نعدد منها، ذكرا لا حصرا، تجربة جمعية التسلّح الخلقي، تجربة المنتدى العالمي للدين والسلام، تجربة الحوار من أعلى، تجربة المجلس العالمي للمسيحيين واليهود، تجربة الحوار العربي الأوروبي، تجربة الحوار من أسفل، تجربة الفريق العربي الإسلامي المسيحي للحوار... وغيرها.
وأيا كان الحوار حضاريا أو دينيا وطنيا أو إقليميا أو عالميا فإنّ إحداث نقلات عميقة في فكر المسلمين خصوصا وأتباع الأديان الأخرى والحضارات العالمية عموما، أمر ضروري، من ذلك اعتبار أن الحوار مع المخالف لنا عقائديا من داخل الدين الواحد أو من خارجه لا فائدة من ورائه وأنّ ما أومن به هو الإسلام الحق وغيره باطل فهذه الأرضية لا يمكن أن يلج بها المسلم الحوار أيا كانت بواعثه.
كما يستدعي الأمر الكفّ عن اعتبار مبادرات الحوار الحضاري والديني وجها من وجوه المؤامرة على الدين الإسلامي إذ لا يجب أن نعتقد أننا لوحدنا نحتكر الأخلاق الفاضلة، وإذا كان الإسلام قد جاء ليتمم مكارم الأخلاق فلا يعني أنها لم تكن موجودة سابقا عند الأمم الأخرى.
إضافة إلى ذلك يتعين المرور في هذه الحوارات من اللاهوتي إلى الواقعي حيث يقول الباحث أحمد عبدالله: «الحوار الفعال هو الذي يستطيع التجريد لما يمكن البناء عليه من أصول إيمانية انطلاقاً إلى إدارة أفضل لحياة الناس على مختلف مشاربهم، وهنا تكمن إضافة الدين إلى الحياة، وواقع الناس، وبخاصة ما يجمعهم وينفعهم».
ومن الضروري أيضا، الانتقال من الحوارات النخبوية الضيقة في الأبراج العاجية إلى الحوارات القاعدية دون أن ينقص ذلك شيئا من مكانة نخبنا الثقافية والدينية الموقرة، إذ الحوار القاعدي يكون أكثر فاعلية وجدوى لكونه يلامس الفعل المشترك اليومي ويساهم في تحسين ظروف العيش وحل المشكلات الواقعية. وهو ما يدعو إلى المرور من التفكير في المهمات الكبرى وشبه المستحيلة لمثل هذه الحوارات إلى البحث في أهداف واقعية ممكنة قابلة التحقق.
كما نرجو في الأخير أن يجري تجاوز حوار الكتل الحضاريّة إلى حوار القيم الحضارية بحيث لا تكون هذه اللقاءات استعراضا للنفوذ الحضاري ومدى امتداده وإنما يكون على أساس ما تقدمه هذه الحضارة أو تلك للخروج بالعالم من مشاكله الراهنة والمستقبلية.
إقرأ أيضا لـ "سليم مصطفى بودبوس"العدد 4259 - الإثنين 05 مايو 2014م الموافق 06 رجب 1435هـ
مواكب
كعادتك مواكب للشأن الراهن وتتخذ من المناسبات العارضة فرصة لفتح مواضيع مهمة
حوار الحضارات في البحرين
مكلل بالنجاح إن شاء الله
شكرا
مقال جيد
أي حوار تكون أهدافه بعيدة عن مضمونه فهو حوار فاشل.
مثل هذه الحوارات لو استمرت مليون سنة فهي حوارات فاشلة.
فاقد الشئ لا يعطي
تضحك على مين
موضوع ثري وشيق
بأسلوبك المعتاد نلقاك كل ثلاثاء تثري معلوماتنا وتضعنا في الصورة
شكرا لكم
أكثر من رائع
شكرا جزيلا استاذ على هذا المقال الاكثر من رائع
حقا هذا هو
ومن الضروري أيضا، الانتقال من الحوارات النخبوية الضيقة في الأبراج العاجية إلى الحوارات القاعدية دون أن ينقص ذلك شيئا من مكانة نخبنا الثقافية والدينية الموقرة، إذ الحوار القاعدي يكون أكثر فاعلية وجدوى لكونه يلامس الفعل المشترك اليومي ويساهم في تحسين ظروف العيش وحل المشكلات الواقعية.
صباح الخير ...
اهنئك أستاذ على المجهود المنهجي خاصة، في تخريج هذا المقال وعلى الثراء الفكري الذي هاج وماج بين التفكير التاريخي والفلسفي واللغوي احيانا وعلى النظرة الحداثية الجميلة التي أنشأت تخومه .
مزيدا من التالق ..
مقال جيد ومواكب
شكرا على جهودك في غثراء الصحافة المحلية وتنوير الرأي العام
بارك الله فيك
نرجو في الأخير أن يجري تجاوز حوار الكتل الحضاريّة إلى حوار القيم الحضارية بحيث لا تكون هذه اللقاءات استعراضا للنفوذ الحضاري ومدى امتداده وإنما يكون على أساس ما تقدمه هذه الحضارة أو تلك للخروج بالعالم من مشاكله الراهنة والمستقبلية.