تتعددُ أجهزة الدولة الحديثة وتختلف أدوارُها، ولكون الدولة تحتكر سُلطات التحقيق والاتهام والمحاكمة ثم العقاب، فقد ظهرت النيابة العامة بوصفها الهيئة التي عهد إليها القانون توجيه الاتهام ومباشرته أمام القضاء، نيابة عن الدولة.
والنيابة العامة لا تُمثل الدولة باعتبارها خصماً عادياً، إنما تنوبُ عنها في تأدية عمل عامٍ من أجل تأكيد سيادة القانون. فالنيابة ليست صاحبة حق كالخصوم العاديين، بل هي صاحبة سُلطة تتولى حراسة الشرعية القانونية من خلال قانونَي الإجراءات الجنائية والعقوبات، ولا تخضعُ لغير مقتضيات الحقيقة. فالفرض أن إدانة المتهم ليست غاية النيابة إلا في الأحوال التي تتحقق فيها من انعقاد مسئولية ذلك المتهم على نحوٍ لا يقبل المنازعة، كما أن من واجب النيابة أن تعرض على المحكمة كل أدلتها ولو كانت في صالح المتهم وقد تؤدي للبراءة أو تخفيف العقوبة، كما أن من واجب النيابة أن تطعن في حُكم الإدانة، أو أن تُقدم الالتماس بإعادة النظر، ولو كان التماسُها أو طعنُها في صالح المتهم؛ لأن واجب النيابة هو حماية مصلحة المتهم إذا اقتضى القانون ذلك.
كي لا يُدان إنسان بعقوبة لمجرد الاشتباه بأنه ارتكب جُرماً، ويجب إجراء تحقيق للوقوف على الأدلة التي تُمكن المحقق، أياً كان مُسمّاه، سواء كان ممثلاً للنيابة العامة أم قاضياً للتحقيق، من تكوين قناعته بأن المشتبه به، إما أن يكون ارتكب الجُرم أو ساهم فيه فيُحالُ للمحاكمة، أو تُمنع محاكمته لعدم توافر الأدلة بحقه، أو لعدم توافر عناصر الجُرم، أو لأي سبب آخر يُبقيه بعيداً عن المحاكمة الجنائية، وإما أنه بريء مما ظُن به.
بمعنى أن النيابة وهي تُباشرُ التحقيق، ينبغي أن تصدَعَ لحكم القانون حين يُفضي التحقيق للبراءة أو الإدانة على حد سواء، فكما أن الوصول للحقيقة غاية سامية، يتعين أن تكون الوسيلة إليها بعيدة عن أي انتهاك لحقوق الإنسان، ولذلك قِيلَ إن النيابة العامة، وهي الساعية في الغالب لإدانة من تحقق معهم من المتهمين، ينبغي أن تضطلع وحدها بسلطة التحقيق، بل لابد من إسناد تلك السلطة لقاضي التحقيق؛ لأن الحياد في جانبه أظهر منه في جانب النيابة العامة.
ولكن مادام نظامنا القانوني، يسير بخلاف النهج القانوني الحديث، ويُسند للنيابة وحدها هذا الدور، كما قررت ذلك المادة الخامسة من قانون الإجراءات الجنائية البحريني بقولها «النيابة العامة شعبة أصيلة من شُعَب السلطة القضائية، وهي الأمينة على الدعوى الجنائية، وتُباشر التحقيق والاتهام وسائر اختصاصاتها وفقاً للقانون» فعليها أن تجعل رائدها أصالة البراءة، فإن تطابقت تحقيقاتها مع تلك الأصالة فنورٌ على نور، وإن قاد التحقيق، بإجراءات مشروعة، لغير ذلك، فلا مندوحة منه.
بمعنى أنه ينبغي على النيابة العامة وهي تؤدي وظيفتها التي ندبها القانون إليها، أن يكون لها دورٌ في تحقيق الضمانات القانونية للمتهم، وهو ما سنراه تفصيلاً، ابتداء من مرحلة التحريات التي تتم بمعرفة الضبطية القضائية، أو بتكليفٍ من النيابة العامة وفقاً لحكم المادة (85) من قانون الإجراءات الجنائية التي تنص على أن «لعضو النيابة العامة أن يندب أحد مأموري الضبط القضائي للقيام بعمل معين أو أكثر من أعمال التحقيق عدا استجواب المتهم»، حيث تكون للنيابة العامة سُلطة الرقابة، في مرحلة التحقيق وما تليه من محاكمة.
ومن وسائل تلك الرقابة المقررة للنيابة العامة ما يأتي:
1- رقابة النيابة العامة على التحريات الجنائية
لكون النيابة العامة صاحبة الدعوى الجنائية والأمينة عليها، بحسب صريح نص القانون، فإنها تباشر رقابتها على أعمال الضبطية القضائية، من خلال عرض الأخيرة لأعمالها في البحث الجنائي على النيابة العامة؛ لتقرر مدى كفاية الدلائل للاقتناع بوجود جريمة وإمكان نِسبتها لشخص معين، ومدى التزام من قام بالتحريات بحدود الشرعية القانونية؛ لتكوين السبب الصحيح كي تبني عليه النيابة قرارها بالتدخل على الوجه الذي تراه مناسباً لكشف الحقيقة. وللنيابة في سبيل إجراء تلك الرقابة، عدم الاكتفاء بما حوته أوراق التحري المعروضة عليها، بل لابد أن تعمل في دائرتي المشروعية والموضوعية؛ وذلك لمنع تعسف سلطات الضبط القضائي، مع الأفراد، لما لتلك الجهات من سلطات واسعة قد يُفضي تحركها بلا رقابة من النيابة، ومن ورائها القضاء، للمساس بحقوق الأفراد وحرياتهم وتلك السُلُطاتِ نزّاعة بطبعها للتسلُّط.
ولما كانت ضرورة وحدة التحقيق وسيره وفقاً للنزاهة والحيادية، تقتضي الإشراف الكامل من جانب النيابة العامة على جميع إجراءات التحري والاستدلال وتبعية مأموري الضبط القضائي اليها لمراقبة أعمالهم والتأكد من قانونية الإجراءات المتخذة منهم، وضمان عدم المساس بحريات الأفراد، بوصف أن رجال الضبط القضائي تابعون للنائب العام، كما نصت على ذلك المادة (44) من قانون الإجراءات الجنائية، حيث تقول: «يكون مأمورو الضبط القضائي تابعين للنائب العام وخاضعين لإشرافه فيما يتعلق بأعمال وظيفتهم».
وسنعرض لجوانب رقابة النيابة العامة على مأموري الضبط القضائي بوصفها إحدى الضمانات التي تُحققها النيابة العامة للمتهم، في الفترة التي يكون في عُهدتها، منطلقة من مفهوم أصل البراءة، الذي لا يتمخض عن قرينة قانونية ولا هو صُورة من صورها، وإنما يتأسس افتراضُ البراءة على الفطرة التي جُبل الإنسان عليها، فقد وُلِدَ حُراً مُبرأً من الخطيئة، ويُفترض امتداد ذلك الوصف وملازمته للإنسان طوال حياته، إلى أنْ يُنقضَ ذلك الأصل بحكم جازم، صادرٍ في محاكمة منصفة بالمفهوم المقرر في المادة (14) من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، وعلى ضوء أدلة متولدة من شرعية إجرائية، تُعتبر حمايتُها مُفترضاً أولياً لإدارة العدالة الجنائية، ويتطلبها الدستور لصون الحرية الشخصية في مجالاتها الحيوية؛ ليوفر من خلالها لكل فرد في مواجهة التحكم والتسلط والتحامل ما يحول دون اعتبار واقعة تقوم بها الجريمة ثابتة من دون دليل، وبما يرُدُ المشرع عن افتراض ثبوتها بقرينة قانونية تحكميّة يُنشئها، ويُتاح للنيابة العامة ترسيخ الشرعية الإجرائية تفريعاً على أصل البراءة وذلك من خلال ما يأتي:
أ- تقديركفاية الاستدلالات ومدى صلاحيتها لتكوين قناعة بنسبة الواقعة لشخص معين، وتكييفها القانوني، ثم تحديد نوع الإجراء الملائِم لكشف الحقيقة، وأخيراً شرعية وسائل التحريات وغاياتها.
ب - التقدير المذكور لابد أن يستند لمعيار موضوعي منطقي، بعيداً عن الأهواء، أو المخاوف التي قد تُطيح بحريات الأفراد وتنسف قرينة البراءة، بما يضرُ بالعدالة، بخلاف مقصود المشرع من إسناد حماية الشرعية وإنفاذ حكم القانون للنيابة العامة، مع عدم الاعتداد بما صار يُعرف في التقاضي الجنائي بالمصادر السرية التي تُحجب حتى على المحكمة، ولقد قضت محكمة التمييز الكويتية، بحق، بشأن حُجية وصدقية تحريات المصادر السرية، بقولها: إن القاضي إذ يُقيمُ حكمه على دليل مصدره سرّي، فإن ذلك القاضي يكون قد استقال من وظيفته، تاركاً إياها لصالح من قدم ذلك الدليل من مصدرها السرّي؛ ذلك لأنه يتعين أن يكون الحكم القضائي كاشفاً عن عدالته، دالاً على أن المحكمة أحاطت بواقع الدعوى، ومحصت ما طُرح أمامها من أدلة وبيّنات وانتهت إلى النتيجة الحُكمية بعد أن أحاطت بمفردات الدعوى، وما تضمنته من دفوع ودفاع ، بحيث استقرت تلك النتيجة في وجدان وصارت إليها في استخلاص سائغ تحمله أوراق الدعوى.
إقرأ أيضا لـ "عبدالله الشملاوي"العدد 4258 - الأحد 04 مايو 2014م الموافق 05 رجب 1435هـ
كلكم راع و كلكم مسؤول عن رعيته
لو فعل كل واحد بما يجب من واجبات لما كانت لدينا مشاكل. منها ان يقوم المحامي بما تملي عليه وظيفته و ضميره باتجاه موكله. التركيز علي جهة واحدة غير عادلة. لو نظر الناس الي عيبهم ما عاب انسان علي الناس
كلكم راع و كلكم مسؤول عن رعيته
لو فعل كل واحد بما يجب من واجبات لما كانت لدينا مشاكل. منها ان يقوم المحامي بما تملي عليه وظيفته و ضميره باتجاه موكله. التركيز علي جهة واحدة غير عادلة. لو نظر الناس الي عيبهم ما عاب انسان علي الناس
استاد عبدالله
اشتقتا لمقالاتك وشكرا لك علي مانحصل عليه من معرفه كبيره تحتويها هده المقالات .