حكاية هذه البلاد مع المعالم التاريخية عجيبة، وهي ليست مجرد قبور قديمة، وإنما شواهد، لا تمحى، على تاريخ وأصالة وهوية هذا الشعب. ومن يحافظ على المعالم والآثار فإنه يحافظ على التاريخ.

التاريخ المكتوب قد يضيع أو قد يمنع، أو يكتب عوضاً عنه تاريخ آخر يلغيه أو يغيّر أو يحرّف مساره. أما القبر والتاريخ الذي يحمله، فهو قد يتعرض لإلغاء من نوع آخر، وأقل ذلك المس بقدسية القبر وصاحبه، والتعدّي على ثوابت التاريخ معاً. أما وأن يضم القبرَ مسجدٌ من مساجد الله فذلك أمر آخر.

تضم البحرين الكثير من الآثار والقبور والمعالم التاريخية، وتحكي بذلك الكثير من حكايات التاريخ. مقابر عالي، قبر صعصعة بن صوحان في عسكر، قبر الأمير زيد بن صوحان في المالكية، قبر الشيخ حسين بن عبد الصمد (والد الشيخ البهائي) في المصلّى، قبر الشيخ ميثم البحراني في الماحوز، قبر السيد هاشم البحراني في توبلي... كل هذه المعالم والآثار لها حكاياتها وتاريخها وامتداداتها حتى اليوم. وكل معلم يشهد على جانب من جوانب تاريخ هذه الأرض.

مقابر عالي تحكي جزءاً من قصة دلمون والعلاقة مع بلاد الرافدين منذ الألفية الرابعة قبل الميلاد. قبر صعصعة وقبر الأمير زيد يحكيان قصة هذه البلاد الطيبة مع الإسلام في المئة الهجرية الأولى للإسلام. قصة الإسلام بمحمد (ص) وصحبته، وقصة الدفاع عن الإسلام ونصرته، إلى جانب الإمام علي. قبر الشيخ العاملي حسين بن عبدالصمد، يحكي حكاية العلاقة التي جمعت بين جبل عامل والبحرين في إحدى فترات التاريخ. أما قبور علماء البحرين فهي شاهدةٌ على عراقة هذا الشعب وتطوره العلمي في فترات مختلفة من تاريخه.

صعصعة بن صوحان العبدي يرجع في نسبه إلى قبيلة عبدالقبيس التي سكنت البحرين مع قبيلة بكر بن وائل وتميم منذ فترة ما قبل الإسلام. وُلد في دارين بالقطيف العام 24 قبل الهجرة (598 م) وسكن الكوفة. أسلم في حياة النبي (ص) وكان ممن عرفوا بقربهم من الإمام علي (ع)، وهو من روى عهد مالك الأشتر عن الإمام علي إلى أهل مصر. وقد شارك مع الإمام في حروبه الثلاث: الجمل وصفين والنهروان، وكان من أمراء الجيش وممن يرسلهم الإمام لمحاورة الخصوم، وقبل وفاة الإمام كان صعصعة أحد شهود وصيته.

بعد صلح الإمام الحسن (ع) مع معاوية كان صعصعة ممن طلب الحسن لهم الأمان من معاوية، فراح يعلن رأيه ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر حتى تم نفيه من الكوفة إلى البحرين حيث مات فيها العام 60 للهجرة (679 م)، ودفن في قرية عسكر حيث كان مقر سكنه آنذاك. قيل فيه الكثير، ويكفيه فخراً ما قاله بحقه الإمام الصادق (ع): «ما كان مع أمير المؤمنين (ع) من يعرف حقه إلا صعصعة وأصحابه».

من سيرة صعصعة يمكن التعرف على بعض صفحات التاريخ، فقبيلة عبدالقيس التي سكنت البحرين (وينتسب اليها حاليّاً الكثير من أهل البحرين)، سكن بعض أفرادها خارج البحرين، وصعصعة الذي سكن الكوفة مثال على ذلك. وكانت قبيلة عبدالقيس تسكن القطيف كما كانت تسكن جزيرة أوال. أما إسلامه ومواقفه فتؤكد عمق العلاقة التي تجمع بين عبدالقيس وأهل البحرين والبيت النبوي الشريف، منذ السنوات الأولى للإسلام.

من اللافت في سيرة صعصعة بن صوحان، أنه كان يروي عن الإمام علي (ع) كما كان يروي عن الخليفة عثمان بن عفان (رض). وعلى رغم أنه قد أسلم من دون أن يرى النبي، كما يقال، فلا أقل أنه يكون صحابيّاً على رأي بعض العلماء، من مدرسة الصحابة، الذين يرون أن مجرد إدراك زمن النبي يكفي لإطلاق صفة الصحبة. وما هو مؤكد أنه كان من التابعين الذين ناصروا رابع الخلفاء الراشدين الإمام علي. من هنا يمكن القول إن لصعصعة بن صوحان منزلة ومكانة في قلوب جميع المسلمين باختلاف مدارسهم، حاله في ذلك كحال سلمان الفارسي وأبي ذر الغفاري وغيرهما.

هذا الموقع المشترك الذي يحظى به صعصعة بن صوحان يستحق الاحتفاء به كرمز من الرموز الإسلامية التي يجتمع حولها المسلمون باختلاف مدارسهم الفقهية، وخصوصاً في هذه الفترة الحرجة من تاريخ الوطن وتاريخ المنطقة ككل حيث تعلو فيه النزعة الطائفية البغيضة ويكاد صوت الوحدة ألا يسمع.

من دروس صعصعة أن كلمة الحق لابد أن يدفع صاحبها الثمن، وفقد ثبت في انتصاره للحق، لم يتغير لتغيّر الحال. فقد أخويه زيداً وسيحان في حروب علي، وظل وفيّاً لما يراه حقّاً. بعد وفاة الإمام واصل نهجه في الدفاع عن أفكاره حتى تم نفيه إلى البحرين. قال كلمته ودفع ثمن ذلك وارتحل إلى السماء. كم تحتاج هذه البلاد إلى مواقف هذا الرجل... أقل الإيمان ألا يتم التعدي على قبره، فقبر صعصعة بن صوحان ليس قبراً، وإنّما معلم من معالم التاريخ لبلادنا الغالية.