تتشابه عملية الإنتاج المعرفي مع حركة الإنتاج الاقتصادي في المجتمع من نواحٍ عدة، منها أن كليهما ثلاثي الأطراف، إذ يتكونا من عملية «خلق» و»تلقي» وبينهما «ضابط ايقاع»، فحركة الإنتاج الاقتصادي تتكون من أصحاب عمل منتجين، وعمال، وحكومة تضبط العلاقة، فيما بين شركاء حركة الإنتاج المعرفي المبدع، والمتلقي، والناشر، الذي هو الضابط الحقيقي بين الطرفين، وعلى ضوء تلك العلاقة يمكن قياس حركة الإنتاج المعرفي ومدى نموه أو انحساره.
في المنتدى الثقافي الأول الذي نظمته صحيفة الوسط وأدارته باقتدار الصحافية منصورة عبدالأمير، تحت عنوان (طباعة الكتب بين استسهال المؤلفين الجدد، وحماس دور النشر)، تم التطرق إلى عملية الإنتاج المعرفي في البحرين، من زاوية تناسل وغزارة ذلك الإنتاج خلال السنوات الأخيرة، وكأن عملية الخلق والإنجاز المعرفي سهلة ومتيسرة في ظل تهافت دور النشر على طباعة المنتجات بغض النظر عن قيمته الفنية أو العلمية، او ما إذا كان يشكل إضافة وقيمة معرفية ترفد الواقع الثقافي البحريني بابتكارات ورؤى جديدة.
ورغم الثراء الذي شهده المنتدى، وهو ظاهرة نأمل أن تتكرر كي يعود المشهد الثقافي في البلاد إلى الواجهة بعد تأثره خلال السنوات الماضية من الأحداث السياسية، إلا أن معظم المداخلات دارت حول العلاقة الملتبسة بين طرفين من الأطراف الثلاثة وهما، الناشر (الحكومي أو الأهلى)، والمبدع، فيما غاب الطرف المهم في صناعة الإنتاج المعرفي وهو المتلقي.
والمتلقي (القارىء) بحسب بعض النظريات النقدية الأدبية المعاصرة يعد شريكاً أساسياً في عملية الإبداع، فمن دون هذا الطرف، فإن النص الأدبي والفكرة تضيع في بطون الكتب، وقد أشار الدكتور محمد سرحان المتخصص في رصد النتاج الفكري والأدبي في البحرين إلى هذا الجانب عندما ذكر في بداية المنتدى المذكور أهمية «جودة المنتج» حتى يأخذ طريقه في الانتشار، ولكن لم يتم تسليط الضوء عليه، بعد أن دارت دفة النقاش حول الدعم المالي للمبدع ومعوقاته من دون الالتفات إلى أهمية دور المتلقي في هذا الجانب.
لا يختلف اثنان على أن الإنتاج المعرفي في البحرين خلال السنوات الاخيرة شهد كمّاً كبيراً وغزيراً في شتى الحقول، يضاهي ما أنتجه الإنسان البحريني خلال 100 عام، غير أنه بموازاة ذلك الكم كان هناك تراجع في الكيف، لذا يشكو المؤلف (المنتج) من عدم رواج إنتاجه، ويلقي باللائمة على الناشر أو عدم وجود جهات رسمية أو أهلية داعمة له، متناسياً أن تفاعل المتلقي هو الذي يعطي انطباعاً حول قيمة هذا المنتج ليس كون المتلقي ناقداً وانما فاعلاً في حركة الفكر والإبداع سلباً وإيجاباً.
ولكي لا يكون الموضوع نظرياً صرفاً سأعرض نماذج فرضت نفسها على الساحة المعرفية البحرينية، في حقول مختلفة، النقد، والدراسات الفكرية، والأدب، حيث مازالت هذه النماذج معبرة بصورة حقيقة عن واقع الإنتاج الفكري والأدبي، كما أنها تعد مرجعاً للباحثين كل في مجالاته، لما ضم إنتاجها من جدة وابتكار وابداع.
ففي حقل النقد مازالت ثلاثية الدكتور علوي الهاشمي (ما قالته النخلة للبحر) و(السكون المتحرك بجزئيه) تتصدر أكثر الكتب البحرينية إقبالاً في النقد، وتعد مرجعاً تاريخياً وأدبياً لفترة خصبة من فترات التاريخ البحريني الأدبي والاجتماعي، وما يتميز به من أسلوب سهل وجذاب رغم أنه كتب بلغة أكاديمية صرفة، فيما لم تنل الكتب النقدية التي تلت تجربة الهاشمي ذلك الصدى في الأوساط الأدبية والثقافية بشكل عام.
أما حقل الدراسات الفكرية، فإن ما أنتجه الدكتور محمد جابر الأنصاري من إرث فكري صاغ من خلاله قراءة جادة وشجاعة للتراث الإسلامي والقومي، وقد بلغ صيت ذلك الإنتاج في الأوساط المثقفة العربية. ويمكن القول إن الأنصاري استطاع أن يخلق له مشروعاً فكرياً خاصاً، في المقابل لم يتمكن أي مثقف آخر من بلورة نظريات فكرية، حيث اقتصرت محاولات المتأخرين من المثقفين على إعادة إنتاج ما كتبه الآخرون عن طريق ترجمة النظريات الغربية وإسقاطها عنوة على الثقافة المحلية، من دون أن تكون هناك ملامح لمشاريع فكرية رائدة.
وفي حقل الشعر (قصيدة النثر، والشعر الشعبي) ، فإن تجربة قاسم حداد الإبداعية في القصيدة النثرية ظلت هي الأخرى أيضاً متزعمة المشهد الأدبي في البحرين، وأكثرها انتشاراً، وذلك يرجع الى تجدد خصوبة حداد الإبداعية، ويمكن القول إن أي تجربة إبداعية جديدة في البحرين عليها أن تبدأ من حيث انتهت إليه تجربة حداد، إذا أرادت أن تحلق عالياً في سماء الإبداع.
ولم يكن الشعر الشعبي شاذاً عن هذا الجانب، فإلى الآن يبقى إنتاج الملا عطيه الجمري هو الأبرز وبلا منازع في شعر الرثاء الحسيني على المستوى المحلي، والسبب في ذلك هو أن معظم النتاجات الشعرية التي تلته في هذا المجال كانت تسنسخ تجربته وتحاكيها من دون أن تضيف بعداً جديداً وخصوصاً فيما يتعلق بالجانب الخيالي، وذلك بحسب ما وقعت يدي عليه من دواوين الشعراء الجدد.
خلاصة القول إن الإنتاج المعرفي بشتى حقوله إذا ما أريد له الانتشار، وحتى لا يذهب الجهد الإبداعي سدى، يحتاج دائماً إلى الجدة والابتكار لا إلى إعادة انتاج ما سبق إنتاجه، فالمتلقي اليوم أكثر نضجاً وثقافة ويستطيع أن يميز بين الجيد والردىء وحتى لو لم يكن ناقداً أدبياً أو مفكراً اجتماعياً، وبالتالي يمكن أن نحقق المعادلة الطبيعية في العلاقة بين شركاء العملية الإبداعية والمعرفية.
العدد 4256 - الجمعة 02 مايو 2014م الموافق 03 رجب 1435هـ